الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

استعراض القوى وحسابات الوقت يهددان مفاوضات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين

استعراض القوى وحسابات الوقت يهددان مفاوضات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين

استعراض القوى وحسابات الوقت يهددان مفاوضات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين

لا يفهم الكثيرون كيف يتعانق الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والصيني شي جين بينغ في الصباح، وفي المساء يتبادلان لكمات الرسوم الجمركية العقابية.ولا يتقبل الكثيرون البيانات المتوالية من جانب أمريكا والصين بإحراز تقدم في المفاوضات وقرب التوصل إلى اتفاق ينهي جميع الخلافات، ثم يفاجأ العالم الذي يحبس أنفاسه، بجولة جديدة من جولات تكسير العظام بين الطرفين وكأن شيئاً لم يكن.

وربما يتصور البعض أن ما يحدث هو نوع من الفوضى التي لا يحكمها قانون ولا تخضع لقواعد أو منطق، ولكن في الحقيقية هناك نمط واضح ثابت الملامح في الاستراتيجية التي يتبعها كل طرف، والتي تنبع في الأساس من طبيعة الأهداف التي يسعى لتحقيقها ومساحة التنازلات التي يمكنه القبول بها وفقاً لأوضاعه الداخلية وتحدياته الانتخابية.

وليس سراً أن الاستراتيجية التفاوضية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ أيام إدارته لإمبراطوريته العقارية، وحتى قبل توليه الرئاسة بوقت طويل، تقوم على ممارسة أقصى درجات الضغط والتهديد، وإيهام الخصم بأنه على استعداد لهدم المعبد على من فيه، ما لم ينتزع التنازل تلو الآخر.


وهذه الاستراتيجية التفاوضية تكاد تكون ثابتة ليس فقط في تعامله مع الصين، وإنما أيضاً في قائمة طويلة من الأزمات الدولية بدءاً من كوريا الشمالية، مروراً بالتفاوض مع شركائه في حلف الناتو، وانتهاء بالتفاوض مع إيران.


وتنطوي الاستراتيجية التفاوضية التي يتبعها ترامب على مخاطر جمة، وربما كانت تصلح لإدارة شركة ولكنها لا تصلح بكل تأكيد لإدارة مفاوضات ضخمة معقدة متعددة الجوانب، لا تتيح المجال لمنتصر ومهزوم وإنما يكسب فيها كل طرف شيئاً ما وفي المقابل يتنازل عن شيء آخر.

وفي الحقيقة فإن الخطأ في استراتيجية ترامب التفاوضية ينبع من قناعته الراسخة بأن العجز التجاري الأمريكي والذي يصل إلى 500 مليار دولار يرجع إلى أن الصين تمارس أكبر عملية سرقة في التاريخ للوظائف والتكنولوجيا الأمريكية.

ويتجاهل هذا المنطق عجز أمريكا التجاري مع أبرز حلفائها في أوروبا وآسيا، رغم أنه لا يمكن اتهام أي منهم بممارسة سرقة الوظائف والتكنولوجيا الأمريكية.

وتملك أمريكا في جعبتها مدداً لا ينضب من الاستراتيجيات التفاوضية، في مقدمتها استراتيجية الخطوة خطوة التي طورها داهية السياسية الخارجية الأمريكية هنري كسينجر، إلا أن ترامب يفضل الاعتماد على نحو يتيح له ربط نتيجة التفاوض بمكاسبه الانتخابية، وليس بالمنافع التي يمكن أن يجنيها الاقتصاد الأمريكي.

وفي المقابل فإن الاستراتيجية الصينية في التفاوض تقوم على استهلاك الوقت والتظاهر بأنها لا تلهث وراء التوصل إلى اتفاق، على أمل الوصول إلى موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية دون اتفاق يتيح لترامب الفوز بفترة رئاسة ثانية، ما يفسح الطريق أمام رئيس أمريكي جديد يمكن التفاهم معه والتوصل إلى اتفاق بشروط مقبولة للجانبين.

ويبدو أسلوب استهلاك الوقت واضحاً في عودة الصين إلى التفاوض مجدداً على النقاط التي توصل الجانبان إلى تفاهمات بشأنها في وقت سابق، ما يعني أن المفاوضات ستظل تراوح مكانها إلى الأبد.

ورغم أن كلاً من استراتيجية التفاوض الصينية والأمريكية تقوم على انتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات من الطرف الآخر، إلا أن الاستراتيجية الصينية تختلف عن الاستراتيجية الأمريكية من عدة نواحٍ.

فعلي سبيل المثال لا ترغب الصين في خسارة القوة الاستهلاكية الهائلة للسوق الأمريكي والذي يستحوذ على نحو 19 في المئة من إجمالي الصادرات الصينية للعالم الخارجي، وتتحكم هذه الحقيقية بطبيعة رد الفعل الصيني ودرجة شدته وتوقيته.

وعلي سبيل المثال فإن الولايات فرضت حتى الآن رسوماً جمركية على نحو 500 مليار دولار من السلع الصينية، في حين لم تتجاوز قيمة السلع الأمريكية التي فرضت الصين رسوماً جمركية عليها عن 110 مليارات دولار، أي أقل بنحو أربع مرات مقارنة مع أمريكا، كما أن الرسوم الأمريكية المطبقة تجاوزت نسبة الـ 25 في المئة، في حين لم تتجاوز نسبة الرسوم الصينية المفروضة عشرة في المئة.

وتقوم الاستراتيجية الصينية أيضاً على استدراج ترامب لارتكاب مزيد من الأخطاء التي توسع من عمق الفجوة بينه وبين حلفائه في أوروبا وآسيا، وتري بكين أن هذا التكتيك يخدم هدفها النهائي بإزاحة الولايات المتحدة عن زعامة العالم والجلوس مكانها.

وفي الواقع فإن مخاطر فشل المفاوضات بين الجانبين التي تهدد مستقبل الاقتصاد العالمي، لا تنبع فقط من الصعوبات الفنية المتعلقة بالتوصل إلى تسويات معقدة في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا والخدمات المالية وحماية حقوق الملكية الفكرية، وإنما تنبع أيضاً من الرهانات الخاسرة التي يقع فيها كل طرف.

فكل طرف يعتقد أن اقتصاد الطرف الآخر ضعيف ولن يقوى على الصمود لنهاية المعركة، وكل طرف حريص على بناء استراتيجيته التفاوضية ببطء دون اعتبار لحسابات الوقت نتيجة حرصه على الظهور بمظهر صاحب اليد العليا في المفاوضات، والطرف الذي لا يلهث وراء التوصل إلى اتفاق.

وعلى سبيل المثال فإن ترامب يحاول طوال الوقت أن يظهر بمظهر صاحب اليد العليا في المفاوضات من خلال إلغاء مفاوضات كانت مقررة سلفاً مع الرئيس الصيني، وفي المقابل فإن الصين حريصة على أنها تملك اليد الطولي من خلال التلويح بورقة وقف تصدير المعادن النادرة التي تمثل عصب صناعة الإلكترونيات في الولايات المتحدة، كما أنها تلوح من وقت لآخر بورقة سعر صرف العملة الصينية لتعويض أثر الرسوم الجمركية الأمريكية.

وفي المقابل مع وصول سلاح الرسوم الجمركية إلى أقصى مدى يمكن أن يذهب إليه، ستبدأ علامات التراجع في الظهور على الاقتصاد الأمريكي الذي من المتوقع أن يتراجع بنسبة 0.3 في المئة بحلول العام المقبل.