الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

نهاية الخصوصية الشخصية

ماذا لو قام شخص غريب بالتقاط صورتك وأنت تتحرك في الشارع بشكل طبيعي، ثم استخدم تطبيقاً بسيطاً لتحليل الصورة واستخدامها لاكتشاف اسمك وعنوانك والكثير من التفاصيل الشخصية الأخرى المتعلقة بك، خلال ثوانٍ قليلة؟

هذا السيناريو لم يعد فكرة هوليوودية جامحة، ولكنه أصبح حقيقة واقعة من خلال منتجات شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا، تحمل اسم
Clearview AI ويتم استخدام تطبيقها، حالياً، على يد المئات من وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة وغيرها، بما في ذلك مكتب المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI.

تأسست شركة «كلير فيو» منذ 3 أعوام تقريباً، في 2017، وخلال تلك الفترة القصيرة حققت نجاحاً كبيراً من خلال تطبيقها للتعرف على الوجه، وتعمل تلك التقنية بشكل مبسط للغاية، حيث تقارن خوارزمية التعرف على الوجه بصورة الشخص من لقطات كاميرا الأمن إلى قاعدة بيانات ضخمة للمطابقة المحتملة.

ويتم تسويق التطبيق بشكل أساسي لوكالات إنفاذ القانون، حيث يستطيع التطبيق أن يعثر أيضاً، على حضور هذا الشخص عبر الإنترنت بشكل عام، وإحضار كل المعلومات المنشورة عن هذا الشخص، الأمر الذي ينهي، عملياً، أي مظهر من مظاهر الخصوصية الشخصية.

تعمل التكنولوجيا المستخدمة عن طريق مقارنة الصورة الملتقطة بأكثر من 3 مليارات صورة، تحتفظ بها الشركة في قاعدة بيانات هائلة قامت بجمعها من وسائل التواصل الاجتماعى الشهيرة، مثل: فيسبوك، ويوتيوب، وغيرها، وبعد عملية البحث والمطابقة، يتم ربط الصورة بروابط المواقع الأصلية التي توافقت معها، وهو الأمر الذي يسهل، كثيراً، العثور على اسم الشخص الموجود في الصورة الملتقطة والكثير من المعلومات الأخرى المرتبطة به.

التكنولوجيا المستخدمة ليست هي المشكلة في حد ذاتها، لأنها توجد في العشرات من التطبيقات الأخرى، ولكن القضية الأساسية هي كيفية حصول الشركة على قاعدة بياناتها، التي تبلغ 3 مليارات صورة، حيث قامت الشركة بمسح وحصاد ملفات التعريف بالمستخدمين عبر وسائل التواصل الاجتماعى المختلفة، وحصلت على الصور من تويتر وفيسبوك والعشرات من المواقع الأخرى على مدى السنوات القليلة الماضية.

حجم قاعدة البيانات التي تمتلكها الشركة، يمثل صدمة في حد ذاته، خاصة عند مقارنته بما تمتلكته جهات إنفاذ القانون نفسها، فعلى سبيل المثال، يبلغ حجم قاعدة بيانات مكتب المباحث الفيدرالية التي تجمع صور جوازات السفر، ورخص القيادة حوالي 641 مليون صورة لمواطنين أمريكيين، وهو رقم لا يقارن بثلاثة بلايين صورة تقول «كلير فيو» إنها بحوزتها.

التطبيق الخطير لا يُتاح استخدامه للجمهور العام حالياً، ولكن بعض المستثمرين في الشركة يقولون: إن هذا الوضع يمكن أن يتغير في المستقبل، ولكن الشركة نفسها أصدرت بياناً رسمياً للرد على الانتقادات التي تحاصرها، تقول فيه «إن التكنولوجيا الخاصة بنا مخصصة فقط للاستخدام من قِبل العاملين في هيئات إنفاذ القانون، ولن تكون متاحة لاستخدامات الجمهور العام».

وبينما تدافع جهات إنفاذ القانون عن هذه التكنولوجيا، باعتبارها عنصراً مساعداً لحل الجرائم ومطاردة المجرمين، ترتفع الأصوات الرافضة لتطبيقات انتهاكات الخصوصية، مثل هذا التطبيق، وبشكل عام، التطبيقات التي تعمل على تقنيات التعرف على الوجه باستخدام الذكاء الاصطناعى، وهو الأمر الذي يثير، حالياً، الجدل في العديد من دول العالم، وتعمل جهات التشريع على وضع إطار قانوني لاستخدام هذه التقنيات، وهو الأمر الذي جعل العديد من سلطات المدن في الولايات المتحدة، توقف استخدام تلك التقنيات، بشكل مؤقت، حتى تصدر القوانين المنظمة.

الكشف عن الطريقة التي تعمل بها الشركة، وتجمع بها المعلومات، أثار غضب شركات المنصات الاجتماعية التي بدأ بعضها في اتخاذ إجراءات قانونية ضد «كلير فيو» ومن بينها: طلب تويتر من الشركة بالتوقف عن حصاد المعلومات من منصتها، لأن هذا الأمر ينتهك سياسات تويتر، أيضاً، خطت غوغل ويوتيوب الخطوة نفسها بإرسال طلبات مماثلة، وقال أليكس جوزيف المتحدث باسم يوتيوب في تصريحات إعلامية «تمنع شروط خدمة يوتيوب، صراحة، جمع البيانات التي يمكن استخدامها لتحديد هوية شخص ما، وهو الأمر الذي اعترفت «كلير فيو» صراحة بفعله، وبالتالي أرسلنا لهم خطاباً لوقف ما يفعلونه». أيضاً أرسل فيسبوك رسالة شديدة اللهجة، وفق ما ذكرته وسائل إعلام أمريكية، ورغم ذلك فإن «بيتر ثيل» عضو مجلس إدارة فيسبوك، قام باستثمار مبلغ 200 ألف دولار في شركة المراقبة الناشئة.

التحرك القانوني ضد «كلير فيو» لم يتوقف فقط، عند المنظمات المهتمة بالحريات، ولكنه وصل إلى المواطنين العاديين، حيث رفع أشخاص دعوتين قضائيتين ضد الشركة، كانت أحدثهما، الأسبوع الماضي، والتي تطالب بمنع نشاط الشركة، والحصول على مبلغ 5 ملايين دولار، كتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمواطنين، جراء جمع الشركة للمعلومات الحيوية للمواطنين، من دون موافقة خطية مسبقة كما تنص القوانين الأمريكية، وتأتي هذه الدعوى بعد أخرى سبقتها تتهم الشركة بانتهاك «الحقوق المدنية».

ورغم التحركات القانونية المختلفة، إلا أن موقف «كلير فيو» لم يتغير، حيث جادل «هوان تون ثات» الرئيس التنفيذى للشركة، بأن الدستور الأمريكى يمنحه الحق في حصد البيانات الشخصية عبر الإنترنت، قائلاً: «ما نفعله في نظامنا هو جمع المعلومات المنشورة والمتاحة للعامة، وإعادة فهرستها، كما أن النظام يُستخدم للتحقيقات بعد وقوع الحوادث، ولا يعمل كنظام مراقبة على مدار الساعة».

حالة الجدل المشتعلة حول التطبيق، لم تمنع وكالات إنفاذ القانون من استخدامه على نطاق واسع، ووفقاً لبيانات الشركة، فإن هناك أكثر من 600 قسم شرطة في الولايات المتحدة يقوم باستخدامه بالفعل، كما دفعت إدارة شرطة شيكاغو مبلغ 50 ألف دولار، للحصول على ترخيص باستخدام النظام لمدة عامين، وأكد متحدث باسم الشرطة أن عدد الضباط المُخوَّل لهم استخدام النظام، لا يتجاوز 30 ضابطاً، حيث لا يتم استخدامه للمراقبة المباشرة، كما هو الحال في لندن، مثلاً.

وعلى الرغم من أن الشركة تؤكد أنها لا يمكن أن تستخدم النظام في البحث العشوائي أو حصول الضباط على امتيازات معلوماتية حول الأشخاص العاديين، إلا أنه يبدو أن «كلير فيو» تشجع هيئات إنفاذ القانون على فعل هذا الأمر، بالتحديد، حيث أرسل فريق التسويق بريداً إلكترونيا لهيئات إنفاذ القانون، يشجع فيه الضباط على البحث داخل قواعد البيانات عن الأصدقاء والعائلة أو حتى المشاهير، ويقول البريد الإلكتروني: «لا يوجد حدود للبحث في النظام، ولذا كن حراً في استكشاف إمكاناته».

هذه الإمكانات الهائلة للتطبيق، أثارت غضب الهيئات المهتمة بحماية الخصوصية، ويقول جاكوب سنو المحامي الحقوقي بكاليفورنيا في تصريحات لموقع «بز فيد»: «تمنح تقنية كلير فيو الحكومة سلطة غير مسبوقة للتجسس على المواطنين أينما كانوا، سواء كان المواطن يتجول في الشارع أو يحضر اجتماعاً أو يتحرك في مسيرة احتجاجية، سيكون تحت الرقابة، وبغض النظر عن مدى دقة تلك التقنية في التعرف على الوجه، فإنها ستنهي الخصوصية كما نعرفها».

ليس هذا فقط، ولكن هناك أيضاً إمكانات استخدام هذا النظام كسلاح ضد المواطنين، كما يرصد إريك جولدمان مدير معهد القانون العالي في سانت كلارا في تصريحاته لجريدة نيويورك تايمز: «إمكانات استخدام هذا النظام كسلاح لا حصر لها، تخيل مثلاً، وجود ضابط غير ملتزم يستخدم النظام في ملاحقة صديقته السابقة، أو حكومة أجنبية تستخدم النظام لمعرفة أسرار المواطن وابتزازه أو غير ذلك».

المثير أنه رغم تلك الضغوط، فإن شركة «كلير فيو» تواصل عملها دون التفات لأي انتقادات، حيث تخطط الشركة لتوسيع أعمالها وخدماتها في أكثر من 22 دولة خارج الولايات المتحدة، بما في ذلك إيطاليا واليونان وهولندا وغيرها.

وهكذا، فخلال فترة قريبة للغاية، لن يكون الإنسان قادراً على الظهور في أي مكان عام، من دون أن تتم ملاحظة وجوده وفهرسة معلوماته ووضعها في قواعد البيانات الضخمة تحت تصرف جهات إنفاذ القانون، وربما جهات أخرى.