الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

كورونا يدشن فجر «الاقتصاد المنزلي»

كورونا يدشن فجر «الاقتصاد المنزلي»
فتح وباء كورونا عيون العالم على حقيقة كانت غائبة عن كثيرين وهي أن تاريخ البشرية تكتبه الأوبئة أكثر مما تصنعه الثورات والحروب والأزمات الاقتصادية وصعود الأيديولوجيات والطفرات التكنولوجية.

ورغم الجهل المطبق بدور الأوبئة في صناعة التاريخ ورسم معالم الحضارة البشرية، إلا أن كتب التاريخ تحفل بعشرات الأمثلة على أوبئة غيرت مسار التاريخ وحكمت على إمبراطوريات بالزوال وسمحت لأخرى بالنهوض على أنقاضها.

وعلى سبيل المثال فإن أقدم وباء معروف تاريخياً وهو الوباء الذي ضرب أثينا عام 430 قبل الميلاد، حيث غير مسار الحرب البيلوبونيسية وجعل الانتصار حليفاً لأسبرطة على حساب أثينا وفتح الباب بذلك أمام ظهور أول قوة بحرية عالمية تهيمن على طرق التجارة.


والشيء نفسه ينطبق على طاعون القوارض الذي ضرب الإمبراطورية البيزنطية في القرن الـ16 وقتل ما يراوح بين 30 و50 مليون شخص أي ما يعادل نصف سكان العالم في ذلك الوقت.


وقد أدى هذا الطاعون إلى توقف طرق التجارة وأضعف الإمبراطورية وأتاح الفرصة للأمم الخاضعة لسلطانها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالانفصال عنها.

وفي بداية القرن الـ14كان وباء الطاعون الذي ضرب أوروبا وحصد أرواح نحو 35 مليون شخص الشرارة الأولى لنهاية نظام العبودية وإرساء اللبنة الأولى للنظام الرأسمالي الذي نعرفه اليوم بعد أن تناقص عدد العمال بصورة هائلة عن العدد المطلوب لإدارة دفة الاقتصاد وصنع بذلك أول سوق عمال في التاريخ يمكن فيه للعمال الانتقال بسهولة حسب الأجر الأعلى المعروض عليهم.

وكان هذا الطاعون الذي بدأ في الصين وعرف باسم الموت الأسود هو بداية عصر النهضة وتراجع سلطان الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على العقول.

وفي الواقع فإن وباء كورونا المستجد أو كوفيد-19 كما استقرت منظمة الصحة العالمية على تسميته ليس استثناء من قواعد التاريخ ومن ثم فإن استخلاص الدروس والعبر التي أفرزتها التجارب المريرة للبشرية مع الأوبئة، ليس نافعاً فقط في توقع موعد وطريقة نهاية الوباء، وإنما أبضاً في تخيل شكل العالم في عصر ما بعد كورونا.

ورغم أنه قد يكون من المبكر لأوانه سبر أغوار التغيرات الهائلة والمتشعبة التي سيخلفها كورونا وراءه إلا أن أوساط الأكاديميين ومراكز الأبحاث بدأت في دراسة مختلف السيناريوهات التي يمكن أن يسفر عنها كورونا وفي مقدمتها بروز نظام عالمي جديد لا تسوده دولة واحدة وإنما تدير شؤونه قيادة جماعية.

وربما أن البعض يرى أن الحديث عن ظهور نظام عالمي جديد مبكر لأوانه بعض الشيء، إلا أن دروس التاريخ تثبت أن التغيير في مكان القوى العظمي يبدأ بطيئاً وضعيفاً ولكنه سرعان ما يكتسب زخماً هائلاً في وقت لاحق وتتسارع وتيرته لترسم مساراً مختلفاً للأحداث، وهذا ما حدث بالضبط مع الإمبراطورية البريطانية في أعقاب حرب السويس عام 1956.

وقف العولمة وسلاسل الإمداد التي تعد من أبرز ملامح النظام العالمي الحالي في مقدمة الجوانب المرشحة للتغيير، بعدما أصبح العالم مقتنعاً بأن الوباء هو من إفرازات التوسع الهائل في حركة التجارة العالمية والسفر وتلاشي الحدود بين الدول.

وليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى زوال الترابط والتداخل بين اقتصادات دول العالم نهائياً ولكن من المؤكد أنه سيتخذ طابعاً إقليمياً ومناطقياً وانتقائياً بدلاً من كونه عالمياً.

وهذا التغيير سيفرض بدوره على الشركات ولا سيما الشركات متعددة الجنسيات أن تعيد النظر في استراتيجياتها ونماذج أعمالها وخطط نفاذها إلى الأسواق.

ومن المؤكد أيضاً أن سوق العمل في مختلف أنحاء العالم لن يعود إلى ما كان عليه قبل تفشي كورونا ففي ظل التحول نحو الحكومات الذكية والخدمات الإلكترونية أصبحت شريحة مهمة من الاقتصاد العالمي تدار من المنازل وليس من مواقع الإنتاج بفضل التطور التكنولوجي الهائل والإمكانات الضخمة التي تبشر بها تقنية شبكات الجيل الخامس.

وهذا التحول لن يتم فقط لكونه استجابة لمتطلبات الحفاظ على الصحة العامة ولكن أيضاً لأنه أوجد دون قصد حلولاً للكثير من المشكلات وفي مقدمتها الزحام المروري والتلوث البيئي وضياع ملايين من ساعات الإنتاج في التنقل بين البيت والعمل.

والأهم من كل ذلك فإن هذا النموذج الجديد على هوى أصحاب الأعمال لأنه يحقق لهم الكثير من الوفورات الناتجة عن تقلص تكاليف التشغيل ومعدلات استهلاك الطاقة وإهلاك المرافق، وبعبارة أدق فإن هذا النموذج الجديد يمكن أن يحسن هوامش الإيرادات والأرباح.

وبطبيعة الحال فإن بعض القطاعات الاقتصادية ولا سيما التصنيع والإنشاءات ستبقى خارج منظومة العمل عن بعد ولكن نسبتها من مجمل الاقتصاد ستتراجع بنسب متفاوتة من دولة إلى أخرى حسب مرحلة التنمية الاقتصادية التي تمر بها.

ومن المؤكد أيضاً أن تداعيات الوباء أظهرت أن هناك صناعات أهم وأخطر من أن تترك لتستقر حيثما توجد هوامش الربح الأعلى ومستويات الضرائب الأقل، ولعل أزمة الكمامات والمنظفات خير دليل على ذلك، فقد تنافست الدول إلى حد القرصنة لتأمين احتياجاتها من هذه المواد، وهذا الوعي الجديد سيؤثر في قرارات الاستثمار وتوزيع محافظ الأصول بين الداخل والخارج.

وبالتأكيد فإن العولمة ليست الضحية الوحيدة لكورونا وإنما ستطال تداعيات الوباء سوق العمل الدولي وحركة الهجرة، فقد تسبب الخوف من الوباء الذي أصاب الملايين وحصد أرواح مئات الآلاف وكبد العالم خسائر اقتصادية فادحة محت عقوداً من التنمية وتسببت في معاناة بشرية لا توصف دون بارقة أمل في التوصل إلى علاج أو مصل، في صعود غير مسبوق لقوى اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية في مختلف أنحاء العالم والتي تغذي رهاب الأجانب.

وهذه الردة ستكون لها تداعيات هائلة على الاقتصادات النامية التي تمثل تحويلات عمالها في الخارج مصدراً رئيسياً من مصادر العملات الصعبة التي تسهم في خلق الوظائف وتحسين مستويات المعيشة لملايين الأسر.