الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

المتصفح الذي غيّر وجه العالم الرقمي

المتصفح الذي غيّر وجه العالم الرقمي

أطلقت شركة مايكروسوفت، الأسبوع الماضي، رصاصة الرحمة على أشهر متصفح إنترنت عرفه العالم وأثار الجدل طوال فترة وجوده، وذلك عندما أعلنت إيقاف الدعم الفني نهائياً لمتصفح «إنترنت إكسبلورر» اعتباراً من شهر أغسطس من العام المقبل، ويأتي هذا القرار ليضع نهاية حياة حافلة للمتصفح الذي استطاع أن يسيطر طويلاً على سوق المتصفحات قبل أن يخفت بريقه خلال السنوات الأخيرة.

جاء قرار مايكروسوفت في ذكرى مرور 25 عاماً على ظهور المتصفح صاحب الحياة المثيرة للجدل بمشاكله الفنية والسياسية، حيث بدأ كمتصفح ويب مبتدئ وحقق نجاحاً كبيراً على المستوى العالمي قبل أن تنتهي حياته. كما أنه كان ذات يوم محور أول معركة قانونية كبرى ضد احتكار شركة تكنولوجيا عملاقة.

المدهش أنه خلال شهر يوليو الماضي، وقف الرؤساء التنفيذيون لشركات «فيسبوك» و«أمازون» و«أبل» و«غوغل» أمام اللجنة القضائية في مجلس النواب الأمريكي، حيث تم الاستماع لشهاداتهم حول إساءة استخدام السلطة، وذلك وسط مشاعر متزايدة بالغضب من أعضاء الحزبين الكبيرين بالولايات المتحدة ضد شركات التقنية الكبرى، وكان من السهل ملاحظة الغائب الأكبر عن هذا التحقيق وهو شركة «مايكروسوفت» التي مرت بهذه العملية وأسوأ منها في مطلع القرن بسبب متصفح «إكسبلورر»، ورغم مرور السنوات مازالت الشركة تعاني من ندوب تلك الفترة.

بالعودة إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، سيطرت شركة «نتسكايب» على العالم الرقمي الناشئ من خلال متصفح «نافيغاتور» الذي كان سهل الاستخدام وحقق شعبية كبيرة، ذلك المتصفح الرائد كان يباع كبرنامج مستقل، وفي أحوال أخرى كان يأتي مجاناً كجزء من التعاقد بين مزود خدمة الإنترنت والمشترك. في تلك الأيام كانت «مايكروسوفت» لا تعطي اهتماماً كبيراً لشبكة المعلومات الدولية، ولكن هذا الأمر تغير بعد فترة عندما توصلت لاستنتاج متأخر مفاده أن أدوات تصفح الشبكة ربما تهدد هيمنة نظام «ويندوز» العالمية على أجهزة الكمبيوتر الشخصية، ولذلك وبعد وقت أطول مما ينبغي قررت الشركة أنه بحاجة إلى امتلاك أدواتها الخاصة للتعامل مع الإنترنت.

في حقيقة الأمر، قامت مايكروسوفت «بالاقتباس» من أفكار متصفح نتسكايب السائد وقتها، أما «نافيغاتور» فقد حصل على تصريح باستخدام كود متصفح «موزايك» الذي يمكن اعتباره أول متصفحات الإنترنت على الإطلاق، وفي كل الأحوال ظهر متصفح «إكسبلورر» مستلهماً تجربة المتصفحات الموجودة بالفعل، ولكن ظهوره الأول لم يكن عظيماً، حيث لم يكن أداؤه جيداً مثل «نافيغاتور»، ولم يعمل مع أكواد «جافا»، وكان مليئاً بالأخطاء. ولكن ميزته الأساسية كانت في مجانيته حيث بدأت مايكروسوفت في تقديمه للمستخدم مع تحديثات نظام ويندوز حتى تم إدخاله ضمن بنية نظام التشغيل نفسه. وهكذا فرض المتصفح واقعاً جديداً لم يتغير بعدها وهو أنه لا يجب على المستخدم أن يدفع أي مقابل مادي لاستخدام متصفح الإنترنت.

في عام 1995، كان متصفح «نافيغاتور» من نتسكايب يمتلك حصة تتراوح بين 70-80% من سوق المتصفحات في الولايات المتحدة. ولكن في عام 1998 حل «إكسبلورر» محل نافيغاتور في السيطرة على السوق اعتماداً على التوزيع المجاني. ولم يكن الجمهور وحده هو من لاحظ هذا الصعود الكبير، ولكن تحولات السوق استرعت انتباه وزارة العدل في عهد الرئيس «بيل كلينتون»، وذلك تحت تأثير جماعات الضغط التي حشدتها شركة «نتسكايب» لمعرفة حقيقة ما يحدث.

في العام نفسه، أطلقت وزارة العدل الأمريكية تحقيقاً، لفحص ما إذا كانت مايكروسوفت قد انتهكت قوانين مكافحة الاحتكار، وقالت الوزارة إن ضم متصفح «إكسبلورر» إلى نظام التشغيل وتوزيعه مجاناً ينتهك عدداً من مواد قوانين منع الاحتكار. ولم تتحرك الأمور بشكل جيد بالنسبة لمايكروسوفت، حيث هاجم المحامي العام الشركة وبيل غيتس الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت وقتها عبر عدد من الإفادات، واقتنع القاضي أن الشركة انتهكت القانون.

وفي نص الحكم، قال القاضي «توماس جاكسون» إن الشركة كان تقوم بإجراءات احتكارية من خلال «وسائل منع المنافسة»، وتجاوز موضوع القضية إلى درجة أنه حكم بضرورة تقسيم الشركة إلى قسمين، أحدهما يقوم ببناء نظام التشغيل ويندوز، والآخر يكون مسؤولاً عن إنتاج البرامج والأدوات الأخرى. والغريب أن القاضي كان من المفترض أن يحكم بجلسة استماع لفحص اقتراح التقسيم، ولكنه عوضاً عن ذلك حكم بالتقسيم مباشرة الأمر الذي منح مايكروسوفت أساساً قانونياً للاستئناف على الحكم.

انتهت المعركة القانونية بالاتفاق على إنشاء لجنة مستقلة مكونة من 3 أشخاص يتمتعون بسلطة التدقيق في أعمال مايكروسوفت، مع إلزام الشركة بتطوير سياسة امتثال داخلية لمكافحة الاحتكار لضمان عدم حدوث هذه الممارسات مرة أخرى. ولكن الوصول لهذه المرحلة حدث في وقت متأخر جداً بالنسبة لنتسكايب التي قامت شركة AOL بشرائها عندما بدأت حصتها السوقية في الانخفاض بشكل ملحوظ. وبحلول عام 2004 كانت مايكروسوفت تسيطر على نحو 90% من سوق متصفحات الإنترنت، بينما تلاشت حصة نافيغاتور لتصل إلى أقل من 4%. وكانت هذه الأرقام دليلاً واضحاً على انتصار مايكروسوفت الساحق.

والمدهش، أنه في الوقت الذي حدث فيه ذلك، بدأت رحلة التراجع المتلاحقة، فخلال عام 2004 كان متصفح «فايرفوكس» الشاب يحتل ببطء وإصرار مساحات صغيرة من حصة مايكروسوفت السوقية، وفى عام 2008 ظهر متصفح «كروم» من غوغل، وكان المتصفحان يمثلان رئة جديدة شابة للتعامل مع الإنترنت مقارنة بمتصفح «إنترنت إكسبلورر» بما فيه من عيوب يعرفها غالبية المستخدمين. وكان الافتقار الدائم للامتثال للمعايير والأخطاء المستمرة في الإصدارات المختلفة، والسهولة التي يتوقف بها عمل المتصفح، تعني دائماً أن المستخدمين المحترفين لا يفضلون استخدام هذا المتصفح.

وعلى الرغم من اختلاف الإحصاءات بين المصادر المختلفة، إلا أن الاتجاه كان واضحاً ولا تخطئه العين، فمن السيطرة الكاملة على هذا السوق في عام 2004 تآكلت الحصة بشكل مستمر على مدار السنوات التالية، وبحلول عام 2013 كان «إكسبلورر» يستحوذ على أقل من 30% من السوق، حيث تشاركت النسبة الأكبر متصفحات «كروم» و«فايرفوكس» و«سفاري» الذي أطلقته شركة أبل.

قرار الشركة بإيقاف دعم «إكسبلورر» كان متوقعاً في النهاية، حيث حاولت الشركة استعادة وجودها في سوق المتصفحات ولكن بتغيير شامل في إكسبلورر الذي فقد هيبته في السوق، وذلك بإطلاق متصفح «إيدج» والذي ارتكز في تصميمه الأساسي على تقنيات «غوغل كروم» وذلك بهدف إصلاح العديد من المشاكل التي عانى منها المستخدم مع إصدارات «إكسبلورر» المختلفة.

كان الصدام القانوني المبكر بين مايكروسوفت والحكومة جرس إنذار للشركة، وربما يكون قد أضعف طموحاتها في هذا المجال، وكتب بعض الخبراء مقالاً في جريدة «نيويورك تايمز» أن تلك القضية أجبرت مايكروسوفت أن تكون أكثر حذراً، وأنه لو كانت الشركة قد احتكرت أعمال متصفحات الإنترنت كما كانت تريد لكانت اليوم قد سيطرت على مستقبل الويب بأكمله.

وجادل السيناتور ريتشارد بلامينثال، والأكاديمي تيم اللذان كتبا المقال، أن مايكروسوفت بعد قضية الاحتكار أصبحت أقل عدوانية بكثير، وأنها بذلك تركت مساحة يمكن أن تنمو فيها شركات مثل «غوغل» و«فيسبوك» و«أمازون» وغيرها وفق شروطها الخاصة. والمفارقة التاريخية أن هذه الشركات الآن تقف في مرمى نيران الحكومة هي الأخرى، ولكن هذا دليل آخر على وجود منافسة وسوق صحية.

ورغم مرور سنوات طويلة على قضية مايكروسوفت التي كان «إكسبلورر» في القلب منها، ما زالت الشركة تواجه اتهامات من الصناعة باقتباسها الأفكار الناجحة وإعادة إنتاجها كما حدث مع ظهور «إكسبلورر» ارتكازاً على تكنولوجيا وشكل وأداء المتصفح المنافس «نافيغاتور»، وعادت هذه الاتهامات للظهور من جديد مع اتهام صانعي برنامج المراسلة «سلاك» لمايكروسوفت بالسطو على أفكارهم وإعادة تقديمها في تطبيق «مايكروسوفت تيمز».

لم تتوقف أبداً القضايا التي تلاحق شركات التقنية الكبرى، ولكن التاريخ يذكر أن أولى تلك القضايا الكبرى جاءت مع متصفح «إكسبلورر» وهي القضية التي وضعت حدوداً للعديد من الموضوعات المرتبطة بالاحتكار وإعادة إنتاج التكنولوجيا وغيرها، وإذا كانت مايكروسوفت قد حققت نجاحاً هائلاً مع «إكسبلورر» فقد شهدت أيضاً تراجعاً هائلاً لنفس المتصفح أمام المنافسين قبل أن تغلق الشركة هذا الفصل من التاريخ وتسعى لمحاولة جديدة مع متصفح «إيدج» الذي تتمنى أن يكون حظه أفضل حالاً من سابقه.