الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الثورة الزراعية ومصير الحضارة البشرية

الثورة الزراعية ومصير الحضارة البشرية

أرشيفية

تعود بداية الحضارة البشرية إلى فترة بداية زراعة بذور النباتات. وكانت تلك البذور تنبت وتتحول إلى الحبوب التي تُعدّ المصدر الحيوي والأساسي للغذاء.

ومع هذا التطور، أصبح الإنسان يتمتع بحالة من الاستقرار بعد أن بقي لآلاف السنين وهو يصطاد الطرائد للحصول على غذائه.

وعندما أصبحت زراعة البذور شائعة في الوديان الخصبة للأنهار الكبرى مثل النيل ودجلة والفرات وأنهار الهند، وقع الناس بشكل مفاجئ على فائض من الغذاء. ومع هذه الوفرة الغذائية، بات في وسعهم التخصص في مجالات ونشاطات أخرى بدلاً من اهتمامهم الدائم بالبحث عن طعام جديد. وهكذا ولدت الحضارة.

ومن الجدير بنا أن نتذكر تلك البذور الأولى لحضارتنا في هذا الوقت الذي نحاول فيه تقييم الأضرار التي سببتها جائحة فيروس «كوفيد-19» في جميع أنحاء العالم، وبشكل خاص على الأمن الغذائي. وحتى قبل انتشار الجائحة، صدرت تقديرات عن البنك الدولي تفيد بأن ما يقارب 700 مليون إنسان حول العالم يعانون بالفعل من ظاهرة انعدام الأمن الغذائي. ولا شك أن الجائحة رفعت من هذه الأرقام بشكل كبير.

وتقول مصادر البنك الدولي: «مع انتشار أزمة فيروس كورونا، فإن الاضطراب في سلاسل الإمداد الغذائي المحلية، والصدمات الأخرى التي تؤثر على إنتاج الغذاء ذاته، وفقدان المداخيل والتحويلات الخارجية، تخلق معاً حالة قوية من التوتر وتعرّض الأمن الغذائي للخطر في العديد من البلدان».

وفي وقت نشهد فيه انكماش سلاسل التوريد الغذائية المحلية بسبب قيود السفر، فإن انخفاض المداخيل وفقدان الوظائف ومناصب العمل لا بدّ أن تؤدي إلى تفاقم المشكلة.

وبسبب هذه الضغوط على الإمدادات الغذائية الوطنية، أعلنت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) هذا الأسبوع أن أسعار المواد الغذائية في العالم واصلت ارتفاعها للشهر الثالث على التوالي، وبما يزيد الضغوط على تلك المواد. ويمكننا أن نتذكر أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية كان بمثابة المزيج المتفجر الذي أشعل انتفاضات الربيع العربي عامي 2010 و2011.

ولا تزال الإمارات العربية المتحدة من بين أكثر دول العالم قدرة على توفير أمنها الغذائي. وهي تحتل المرتبة 21 من بين 113 دولة في مؤشر الأمن الغذائي العالمي. وكان قرارها بتعيين وزير للأمن الغذائي عام 2017 يُعدّ بحد ذاته مبادرة تسبق بها عصرها بكثير. ومن المنتظر أن تكون لأزمة الأمن الغذائي آثارها المتعاقبة في جميع أنحاء العالم بسبب الطبيعة العالمية لسلاسل التوريد الزراعية.

ودعنا نتمعّن ونتفحص محنة المزارعين في جميع أنحاء العالم. فلقد وجدت شركة «أولام» العالمية العملاقة لإنتاج المواد الغذائية والتي يوجد مقرها في سنغافورة، من خلال بحث ميداني، أن أكثر من 1000 من مزارعي الكاكاو والقهوة والسمسم وبعض المحاصيل الأخرى في إفريقيا وإندونيسيا يعانون من مشكلة نقص الأمن الغذائي. وبسبب الإجراءات الوقائية المعقدة ضد فيروس كورونا، وجد هؤلاء المزارعون أنفسهم في مواجهة مشكلة نقص المواد الغذائية وللدرجة التي ستؤدي إلى الإبطاء في زراعة المحاصيل هذا العام. ولنتذكر أن أي تباطؤ في الإنتاج يحدث اليوم، سوف تبقى آثاره ونتائجه ماثلة في المستقبل.

ولا شك أن قطاع الزراعة العالمية ساعد بشكل واضح على توفير إمدادات غذائية كافية لكوكبنا ذي النمو السريع والذي يضم 7.8 مليار نسمة. وفي أحيان كثيرة، عندما يعاني الناس من الجوع بشكل مأساوي، لا يكون ذلك بسبب نقص الإمدادات، بل بسبب الانهيار الطارئ على سلاسل التوريد، أو دورات الفقر، أو ببساطة عدم المساواة أو نقص العدالة في توزيع الغذاء (ويمكنك أن تفكر بالكميات الضخمة من طعام البوفيهات الذي يضيع هدراً).

وهناك شيء واضح فيما يتعلق بجائحة فيروس كورونا. وهو أنها أحدثت دماراً حقيقياً في الاقتصاد العالمي وخاصة في الدول النامية. والمثال عن ذلك يأتي من الهند التي أعلنت عن انخفاض بنسبة 25% في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الثاني من العام الجاري (وفقاً للمقياس السنوي). ويأتينا المثال الثاني من دولة جنوب إفريقيا التي أعلنت عن انخفاض سنوي أضخم بنسبة 50% في الناتج المحلي الإجمالي عن الربع الثاني. ويمكن القول بشكل عام إن فصول قصة النمو الكبير الذي تحقق خلال العقدين الماضيين في الاقتصادات الرئيسية للعالم النامي، قد توقفت.

ولقد يكون من المهم أيضاً الإشارة إلى أن السكان الذين يعانون من ظاهرة الافتقار للأمن الغذائي سيشكلون عبئاً على النمو الاقتصادي والانتعاش في المستقبل. ولهذا السبب يتحتم على صنّاع القرار السياسي العمل بلا هوادة على توفير القدر الكافي من الأغذية الآمنة والمواد المغذية بنفس الحماس الذي تسعى به شركات الأدوية والحكومات لتركيب وتخليق اللقاح المناسب للوقاية من فيروس «كوفيد-19».

ولن يكون هناك أمن غذائي ما لم يتوفر الأمن المائي. وتشتهر منطقة الشرق الأوسط بفقرها بالمياه. وبناء على دراسة جديدة أنجزها معهد الاقتصاد والسلام الذي يوجد مقره في أستراليا، فإن الشرق الأوسط يُعتبر من أكثر بلدان العالم معاناة من الافتقار للأمن المائي. وهناك العديد من الدول الإفريقية التي تواجه الأخطار المترتبة عن ندرة المياه.

وربما يواجه العالم الموجة الأولى من اللاجئين الذين يعانون من ندرة المياه خلال العقد المقبل أو نحو ذلك، حيث سيؤدي نقص إمدادات المياه إلى تراجع حجم الإمدادات الغذائية أيضاً. وسوف نشهد الكثير من الاضطرابات الاجتماعية وتدفق اللاجئين والتي ستجعل الانتفاضات العربية تبدو تافهة بالمقارنة معها.

وإذا كانت الحضارة الإنسانية قد بدأت مع تلك البذور الأولى التي زرعت في التربة، فإن مصيرها لا يزال يعتمد على الزراعة الواهبة للحياة، وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.