الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

«بريكست» وغروب شمس بريطانيا العظمى

بعد الإعلان عن الشروط الصريحة لصفقة انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، أصبح مستقبل هذه «الدولة الجزيرة» مجهولاً، وهي التي كانت تستأثر ذات مرة بقوة استعمارية لا تُقهر ومكانة اقتصادية رائدة على المستوى العالمي، ولقد قيل ذات مرة إن الشمس لن تشرق أبداً بعد الآن على الإمبراطورية البريطانية.

واحتلت الصفقة التي تفصل المملكة المتحدة رسمياً عن عضويتها في الاتحاد الأوروبي أكثر من 1200 صفحة بالإضافة للخرائط المفصلة لكل ما يخطر ببالٍ، من تلك التي تحدد حقوق الصيد البحري إلى قضايا الهجرة والبروتوكولات التجارية، وهو إنجاز مهم في مسعى الخروج البريطاني الطويل والعامر بالمطبّات من الاتحاد الأوروبي والذي بدأ في يونيو 2016 في أعقاب تصويت البريطانيين بفارق ضئيل للخروج.

وبعد كل هذا الضجيج والخوض في السياسات الفوضوية التي واكبت عملية الخروج، يكون السؤال المهم: هل ستكون المملكة المتحدة في وضع أفضل الآن؟ الجواب هو «كلا».

ومنذ أن اتخذت قرارها بالخروج من الاتحاد، بدأ المستثمرون العالميون ينظرون بارتياب لاقتصاد مجموعة الدول السبع الصناعية الذي كان يتجاوز وزنه الحقيقي في أغلب الأحوال. فلو كنتَ مستثمراً يابانياً كبيراً، أو صاحب شركة هولندية عملاقة، أو مستثمراً صينياً، فإن المملكة المتحدة كانت تمثل دائماً وجهة جذّابة للاستثمار الأجنبي المباشر.

وكان الاستثمار فيها يعني قبل أي شيء آخر أنك تستثمر في اقتصاد عظيم قائم على القواعد والقوانين ويوفّر الدخول المباشر لسوق تضم 450 مليون نسمة في الاتحاد الأوروبي.

ويراهن المستثمرون المباشرون الأجانب على الاستقرار والقدرة على التنبؤ بالتوجهات المستقبلية للسوق، ولو كنت تستطيع الجمع بين هذه الميزات والقدرة على الوصول إلى سوق ضخمة فلا شك بأن لديك التركيبة السحرية للنجاح.

فهل لديك اليوم فرصة حقيقية لتحقيق ذلك؟ كلا، لأن المملكة المتحدة أصبحت بشكل مفاجئ أصغر حجماً في أعين المستثمرين الأجانب، والذي حدث هو أن «التصويت» لصالح «بريكست»، والذي كان وليد الحركة الشعبوية ذاتها التي أتت بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أحدثت شرخاً عميقاً في السياسة البريطانية عندما شعرت بريطانيا بعدم الارتياح من الاتجاه المتزايد للاتحاد الأوروبي لفرض معاييره وتعاليمه على الدول الأعضاء فيه.

وفي عام 1988، حذّرت رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر من ظهور «الدولة الأوروبية العظمى» خلال خطاب ألقته في مدينة بروج البلجيكية. ووفقاً للعديد من الاعتبارات يمكن القول إن ثاتشر كانت على حق بعد أن أصبح بيروقراطيو بروكسل يتمتعون بسلطات استثنائية لوضع المعايير التي يجب الالتزام بها داخل الدول الأعضاء، وهذا العمل كان في السابق منوطاً بالمشرّعين وحدهم. وبالنسبة للمملكة المتحدة، تعني حركة العمالة داخل منظومة الاتحاد الأوروبي أن عدداً أكبر من الأوروبيين الشرقيين سوف يفضلون العيش في لندن ومانشستر أكثر من روما أو مرسيليا.

وعندما قرر الناخبون البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي، كانوا يشعرون وكأنهم «استعادوا بلدهم» من بيروقراطيي بروكسل وأوقفوا حملة تدفق المهاجرين. وصحيح أنهم حققوا مرادهم من النواحي المعنوية ولكنهم دفعوا اقتصاد بلدهم إلى الوراء.

وبعد أن كانت شركات التصنيع العالمية ترى أن «مانشستر وليفربول» تمثل وجهات استثمارية جذابة بسبب انضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، فلقد بات يتعيّن عليها أن تفكر الآن مرتين. وصحيح أنه تم الاتفاق على الدخول المُعفى من الرسوم الجمركية في الاتفاقية الجديدة، إلّا أن ذلك لا يمنع ظهور انقسامات ونزاعات مقبلة يمكن أن تشكل خطراً على الاستقرار الاقتصادي.

وفي ما يتعلق بالدور الذي اعتادت أن تلعبه لندن كمركز استقطاب للبنوك الاستثمارية العالمية، فإن صفقة الخروج من الاتحاد فشلت في توفير شروط الوصول السهل لشركات الخدمات المالية إلى السوق الأوروبية.

ويبدو أن المصرفيين الذين فضلوا الانتقال إلى فرانكفورت أو أمستردام نجحوا في التوصل إلى الخيار الحكيم.

والآن، وبعد أن أبرمت المملكة المتحدة صفقة «بريكست» مع الاتحاد الأوروبي، فإنها تزعم أن بإمكانها عقد الصفقات التجارية باستخدام نفس قواعد التعامل مع الاتحاد الأوروبي. ولكن، لا يمكنها التفاوض بشكل مستقل.

ومن المعروف أن عقد الصفقات التجارية عملية معقدة، ولا يمكن إلا لعدد قليل من الصفقات التجارية الإقليمية أن تحل محل سوق الاتحاد الأوروبي بسكانه الذين يبلغ عددهم 450 مليوناً.

وسوف تواصل المملكة المتحدة تجارتها مع الاتحاد الأوروبي، ولن يكون تطبيق متطلبات «بريكست» صعباً، إلَّا أن من الصعب إغفال الحقيقة التي تشير إلى أن هذه «الدولة الجزيرة» التي كانت ذات يوم عملاقاً تجارياً، أصبحت أصغر حجماً على الساحة العالمية. ولن يكون هناك ذعر ولا انهيار كبير، بل إن المملكة المتحدة سوف تقلل نشاطها خلال العقد المقبل من دون أن ينهار اقتصادها، وسوف تظل لاعباً اقتصادياً رئيسياً بالرغم من أن مستقبلها أصبح أقل إشراقاً وشعبها هو وحده الذي سيدفع الثمن في النهاية.

* زميل باحث في معهد السياسة الخارجية بكلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.