الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

هل يموت المبدع إذْ يموت؟

في المطلق، المبدع عموماً، والكاتب على الخصوص، لا يموت، فأعماله تظل شاهدة على حياته الغنية، ذلك أننا عندما نفتح أعيننا على المكتبات العامة، أو مكتباتنا المنزلية، تبدو الأسماء التي تتفرد من بين آلاف الكتب وكأن أصحابها أحياء بيننا، فنرى بلزاك، زولا، فلوبير، محفوظ، المعري، هيمنغواي، سارتر، التوحيدي، ابن خلدون، وغيرهم كثيرون، وصحبة أولئك الكتاب تؤنسنا كثيراً وتمنحنا دفئاً خاصاً.

تُرى، من يشكك اليوم في الوجود الحي لشكسبير أو لنيتشه أو لمحفوظ؟.. من أين هذا الخلود؟ وهل هي صدفة الأقدار؟.. لا صدفة في مثل هذه الأمور، فمثلاً: إخراج مسرحيات شكسبير، وتحويل بعضها إلى أفلام بما في ذلك شخصيته، حضوره الأكاديمي في جامعات العالم ومراكز الأبحاث.. كل هذا يمنح الشخصية وجوداً كبيراً يستمر عبر الأجيال المتعاقبة، ويمنحها استمراراً في الوعي الجمعي والإنساني.

من حقنا اليوم أن نطرح جملة من الأسئلة على أنفسنا، منها: هل استفدنا في العالم العربي من هذه القيمة التي تعطى للكاتب، بحيث يستمر فينا كبارنا الذين صنعوا الوعي الفني فينا؟ وكم دراسة، وكم من فيلم، وكم من منجز فني أو غيره استعاد منجز ابن رشد، أو ابن خلدون، أو المعري، وحتى محفوظ القريب منا؟ وأين حق الأجيال الجديدة في أن تعرف تاريخها ورموزها؟


لا معرفة متأصلة، ولا استقامة ولا ديمومة، بدون حضور تلك الرمزيات الخالدة، لهذا علينا أن نحتاط لرد فعل الشاب عندما يعرف أنّ ابن رشد أنقذ أرسطو من موت أكيد، فأيقظ من خلاله العقل الأوروبي، ودفع به إلى الواجهة الإنسانية المنقذة من الموت؟ أو حين يسعد الطفل العربي المقدم على مجابهات ثقافية عالمية صعبة، أو عندما يستوعب الطالب والباحث جهد المعري الفلسفي والفكري وتأثيره في رائد النهضة الأوروبية والشعرية، دانتي أليغري. ما يعني أن العربي في نهاية المطاف، تاريخ وحضارة وثقافة حية.


إن الأمر سيبدو أكثر تعقيداً حين يستفزنا السؤال الآتي: كم من واحد منا يقرأ اليوم صناع التاريخ العربي والإنساني القديم؟ بل من يقرأ نجيب محفوظ، وحنا مينا، وجمال الغيطاني، والطاهر وطار، ومحمود المسعدي، وغيرهم؟ ثم ماذا فعلنا لهؤلاء ولغيرهم لتثبيتهم في الذاكرة الجمعية؟ باستثناء الجامعة والجهود الأكاديمية، في المجالات الضيقة والمتخصصة، فلا جهد يبذل من أجل فعل الاستمرارية.

لا وعي بالقيمة التاريخية لهذه الشخصيات التي شيدت جزءاً من الميراث العربي والإنساني، في الثقافات الغربية نجد مثلاً، من أجل التواصل، السلاسل الميسرة التي تقدم الأعمال الفكرية والأدبية، في صورة مختصرات للقراءة المتسقة مع إمكانات الأطفال، وتمنحهم فرصة إن أرادوا لاحقاً، أن يقرأوا النص كاملاً في فترات لاحقة من العمر.. المهم أنه يتم ترسيخ الأيقونات الرمزية في فترات الحياة المبكرة.. هذه رؤية الغرب الفعالة، وهذه تجربته، لماذا لا نقلده بشكل مبدع وخلاق، لإنقاذ ذاكرتنا الجمعية الحية من التلف والمحو؟ يجب ألا يموت المبدع إذ ْيموت.