الأربعاء - 17 أبريل 2024
الأربعاء - 17 أبريل 2024

جريمة نيوزيلندا .. بدائية الإنسان المعاصر

نعيش اليوم في عالم فقد جُل قيمه الإنسانية، وعُدنا إلى قيم تسيّدت في القرون الماضية، من عبودية وعرقية وعنصرية.

نجد أنفسنا اليوم أمامها وبشكل أكثر بشاعة، وكأن ذلك الإنسان الذي اعتبر الحداثة منجاة له، يعود من جديد إلى الوراء، ليطأ قيمها بكل عنف، ويفتح سدادة القمقم ليحرر كل ما كان مخبأ من أمراض، كما نجد أنفسنا أمام إنسان حداثي في لباسه وزمنه وشكل أسلحته المتطورة، وبدائي في قناعاته وثقافته.

الأمر لا ينشأ هكذا، فقد وجد تربة حية ساعدته على التوسع، حيث تمّ التخلي، بشكل فادح، عن تجريم العنصرية بعد أن ابتذلت الكلمة.


ما حدث في نيوزيلندا شديد البشاعة، لكنه يدفعنا إلى الكثير من التأمل في هذه العودة المحمومة إلى القيم المناهضة لإنسانية الإنسان.


للمرة الأولى نرى رئيسة وزراء أوروبية تشترك بشكل كلي مع آلام المسلمين في مصابهم الفادح: خمسون قتيلاً، تمت تصفيتهم ببرودة في مشهدية تراجيدية كأننا بصدد لعبة، رآها الناس مباشرة من خلال فيسبوك .. هي جاسيندا أرندرن النعومة والحنان والإنسانية لدرجة أن تعطيك الانطباع أنها أم أو أخت، التي تستحق كل التقدير والاحترام.

لقد وضعت الغرب الاستعماري الجديد الأعمى، في تعامله مع الجرائم المضادة للمسلمين، في أوروبا، في حالة إحراج، لم تلعب على الكلمات، لكنها كانت واضحة في الإدانة واعتبار الفعل إرهابياً مفكراً فيه بعنصرية، منذ اللحظة الأولى. الناس ليسوا حشرات، بشر سرقت منهم أرواحهم بجبن. طعنوا في الظهر وهم يصلون. أطفال في بدء العمر لم يرحمهم القاتل المملوء بالأحقاد العرقية وكل ما أفرزته فلسفة الجريمة المنظمة والمهيكلة في المخابر العنصرية .. ماذا لو حدث العكس، وكان الضحايا خمسين أوروبياً؟ كيف كان الغرب، الذي يكيل بمكيالين، سيتصرف بقنواته المرئية والمسموعة؟

الجريمة في أي مكان وزمان، لا تحتمل التفكير لإدانتها، لهذا كله، تستحق هذه المرأة كل التقدير، فأمام الجريمة الشنعاء لم تدخل في أي اعتبار آخر .. علمتها تجربتها السياسية أن تذهب عميقاً وبوضوح لتدين الإرهاب والإسلاموفوبيا، تحديداً، التي ليست جريمة نيوزيلندا إلا وجهاً من أوجهها المتطرفة .. لقد وقفت مع الحق ولَم يهمها شيئاً آخر، وتحملت مسؤوليتها كاملة وفرضت هذا الحق على الجميع، في بلدها، ووقف الشعب النيوزيلندي وراءها، وليس مهماً إن وضعت حياتها في ميزان المخاطر.

في نيوزيلندا التي يشكل فيها المسلمون واحداً في المئة، تشكل العنصرية المتطرفة أكثر من ذلك بكثير، وقد خاضت جاسيندا ضدها حرباً ضروساً ولا تزال إلى اليوم .. تواجه بصرامة هذا التيار العرقي، الذي لا يحارب الأديان كلها باستثناء ما يؤمن به وحسب، ولكن كل الألوان التي ليست بيضاء .. فهو يظن أن العرق الأبيض أصبح في خطر، لكن هل تستطيع امرأة مؤمنة بالحق، فعل شيء في مجتمعات أوروبية وأنجلوساكسونية ابتذلت مفهوم العنصرية، وحوّلته لغوياً إلى شيء عادي وإلى نكت متداولة في مجتمعاتها؟