الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

حريق نوتردام.. والهَبَّة الفرنسيَّة

نوتردام (سيدة باريس) ترمز لثمانية قرون من التراث الإنساني.. تعانَقت فيها فنونُ العِمارة الإسلامية والقُوطية وغيرها، ويَرى بعضُ الباحثين أنَّ مدرسَتها تُعَدُّ سَلَفَ جامعة باريس التي كانت مقرَّراتُها متأثِّرةً بالعلوم والمناهج السائدة آنذاك في الجامعات الإسلامية، حتَّى أصبحت مَهْدًا وحِصْنًا لـ«المدرسة الرشدية» (نسبة إلى ابن رشد) التي كانت الكنيسةُ تحاربُها وتَعُدُّها فِكْرًا شيطانيًّا.

لقد زُرْتُ نوتردام وبُرْج إيفل، وكانَا رائعين حَقًّا!. واليوم أُصِيبَت نوتردام بمأساة لا تَتَحَمَّلُها القلوب؛ إذِ الْتَهَمَت النيرانُ أجزاء كثيرة منها، ولا غَرْوَ أن تَرَى السُّيَّاح وأبناءَ فرنسا يَنُوحُون وهم يَرونَها تَحْترِق ويتصاعد منها اللَّهَبُ والدُّخان في الآفاق، وإنَّ الألَمَ لَيَعْتَصِر أَفْئِدَتَنا ويُفِيض دُمُوعَنَا عندما نُشاهِد ذلك البرجَ الشامخ وهو يُقاوِم النيرانَ وكأنَّه لا يُرِيد أن يَسْقُط أو يَنْحنِي!

يَحِقُّ للفرنسيين والعالَم أن يَبْكوا؛ فالْمُصابُ جَلَلٌ والفاجعة كبيرة، ويَحق للشعب الفرنسي أن يقف وقفةً واحدة ويَتَبرَّع بالغالي والنفيس لإعادة بنائها، ففي صباح اليوم الرابع لهذه الفاجعة وصَلَت التبرُّعاتُ إلى نحو مليار دولار، مِمَّا يدل على الوعي الحضاري للفرنسيين وغيرهم من الشعوب الغربية.


وتُذكِّرُني هذه المأساةُ (والشيءُ بالشيء يُذْكَر) بفاجعة مماثلة حَلَّت بالعراق؛ لكنَّها مَرَّت بغير باكية أو نائحة؛ بلْ لم تَلْفِت انتباهَ أحَد، ويبدو أنَّ ثمةَ أياديَ خفِيَّة خطَّطت لها بإحكام، وهي مشاهدة المخطوطات النادرة – التي تعود إلى آلاف السنين – تعبث بها أيدي العابثين بعد سقوط بغداد 2003 في أيدي الأمريكيين؛ كلُّ ذلك والعالَم يَتَفَرَّج!


أذْكُر أنَّني كنتُ في حالة «هستيرية» وأنَا أرَى ذلك المشهد الْمُؤلِم، وكان بجنبي صديق عراقي يعمل معي في مكتب واحد، فقلتُ وأنَا في تلك الحال: «إرثُ آلاف السنين يُدَمَّر في لحظة!»، فرَدَّ عليَّ زميلي معاتبًا: «بل دُمِّر البَشَر وأنتَ تُفَكِّر في المخطوطات!». حينئذ أدركتُ أنَّه فَهِمَني خَطَأً، فأنَا أحِبُّ الشعب العراقي ويَعِزُّ عليَّ ما حدث له من قتل وتدمير، لكنَّني كنتُ أفَكِّر في شيء آخر.. شيء لا يُعَوَّض.. شيء صَنَعه أسلافُنَا منذُ آلاف السنين.. فالعراقُ أمُّ الحضارات ومَنشَأُ الدول والإمبراطوريات والكتابة والقوانين، إلخ.

والآن أيْضًا يَعْبَث المتطرِّفون بآثار سوريا واليمن وليبيا؛ ولا أحَدَ ينوح أو يبكي.. نعم تَبَنَّت الإمارات مشروعًا مُهِمًّا لاسترداد وحماية آثار العراق وسوريا واليمن، لكنَّ المأساة تحتاج إلى هَبَّة عربية على غرار الهَبَّة الفرنسية.