الأربعاء - 17 أبريل 2024
الأربعاء - 17 أبريل 2024

عرب الانتماء الحضاري

عندما كنتُ أبحث في تأثير الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الغربية، وقَعْتُ على كثير من الأقوال تَزعُم أنَّ العرب لم يُبدعوا شيئاً في الحضارة البشرية، وأنَّ المبدعين أو أغلَبَهم كانوا من العَجَم، ولا تُهِمُّني الأقوالُ التي يُطْلِقُها العوامُّ جُزافاً، لكنَّ هذا الوَهْمَ وقَع فيه العلامةُ ابنُ خلدون والفقيهُ الكبير ابنُ أبي ليلى، والحقُّ أنَّه يصعب اختصارُ هذا الموضوع – الذي تَنَاوَلْتُه في كتاب من 760 صفحة – في صفحة واحدة.

خلاصةُ ما وَصلْتُ إليه هو أنَّ البيئة الثقافِيَّة والعلمية التي هَيَّأتْها الحضارةُ العربية الإسلامية لجميع مُكَوِّناتها العرقية والدينية لكي تُبْدع وتَبْتَكِرَ، هي العنصرُ الأساسُ في هذا الإبداع، فلولا تلك البيئة التي خَلَقَها العربُ المسلمون لما أبدعت تلك الأقوامُ شيئاً، وهذا يُذَكِّرنَا بالمثال الأمريكي في العصر الحديث.

فالكِندِيُّ، وجابر بن حيان، وابن الهيثم، وابن النفيس العربُ؛ والخوارزمي، والفارابي، والفرغاني التُّرْكُ؛ وابنُ سينا، والرازي، والبيروني الفُرْسُ؛ وأبو الفداء إسماعيل بن علي الْكُرْدِيُّ؛ ويُوحنَّا بن ماسويه، وبَخْتَيَشُوعُ، وحُنَيْنُ بن إسحاق النصارَى؛ وموسى بن ميمون اليهوديُّ؛ وثابت بن قُرَّة والبَتَّاني الصابئان قبل أن يُسلِما؛ وابنُ وحشية النبطي، وقُسْطَا بن لوقا، والخازني، وياقوت الحموي الرُّومُ؛ وابنُ البيطار، وابنُ بطوطة، وابنُ فرناس الأمازيغُ؛ كل أولئك كانوا عرباً بالانتماء الحضاري.


إنَّ البيئةَ العلمية العربية هي التي أنتجت هؤلاء، سواءٌ كانوا عَرباً أم عَجَماً، فليُعْزَوْا إلى بيئتهم لا إلى أعراقهم، وسقراط يقول: «لَيْسَ الْمَوْلِدُ بَلِ التربيةُ هِيَ التِي صَنَعَت الحَضارةَ الهِيلِينِيَّة».


فالبِيزنطيُّون واليهودُ والساسانيون والسُّريانُ والهنودُ واللاتينيون لم يُبدعوا شيئاً طِيلَةَ العصور الوسطى؟ ولا يَعْنِي ذلك الاستخفافَ بتلك الأُمم؛ وإنَّمَا يَعْنِي أنَّ لِكُلِّ أمَّة زمانًا تُبْدِع فيه ثُمَّ تَتَقَهْقَر وتُسَلِّم إبداعاتِها لأمَّةٍ أخرى تنشط لذلك، وقد عبَّر عن ذلك وِل ديورانت حين قال: «كانَ عالَمُ الشرقِ يَتَأهَّبُ لِيَسْتَوْدِعَ اليونانَ تُرَاثَه القَديم»، وهذا ما حدَث للمسلمين أيضاً حين اسْتَوْدَعُوا أوروبَّا تُرَاثَهم في العصور الوسطى فنَهَضَتْ به.

فالأمَّة العربية الإسلامية، هَيَّأهَا التاريخُ لهذا الدور في العصور الوسطى، كما حدَث للإغريق والرومان قبلها، وكما وقع للبابليين والمصريين والهنود والفرس قبل ذلك، وكما يحدث اليوم للغرب، بل كما سيحدث لأقوام آخرين في المستقبل، ولكنْ هَلْ أبدعنا شَيْئاً في العصر الحديث؟ هذا هو السؤال!.