الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

التغافل

خلق من أخلاق الكبار، يتصفون به؛ ترفعاً وحرصاً على إبقاء حبل الود موصولاً، هو تغافل المرء، أي: «تعمد الْغَفْلَة، ويري من نَفسه أَنه غافل وَلَيْسَ بِهِ غَفلَة».

يتغافل المرء الحكيم عن كثير من الهفوات ممن حوله لتستمر الحياة، وقد نبهنا القرآن الكريم إلى هذا الخلق فيما حكاه عن سيدنا يوسف، فقال تعالى: «قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ» (يوسف)

«لم يبدها لهم» إنه أدب التغافل من يوسف عليه السلام، وهو خلق من أخلاق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» (التحريم). فكان إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الحديث حكمةً منه وحباً.


كذلك فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تعجَبونَ كيف يصرِفُ اللهُ عنِّي شتمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتِمونَ مُذمَّمًا ويلعَنونَ مُذمَّمًا، وأنا محمَّدٌ»، على حد قول الشاعر:


ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وحُكِيَ من أدب الخلفاء في التغافل والترفع عن الزلات قول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «العقلُ: ثلثُه فطنةٌ، وثلثَاه تغافلٌ»، وأن عمر بن عبدالعزيز دخل المسجدَ في ليلةٍ مُظلمة، فمرَّ برجل نائم فعَثَر به، فرفع الرجلُ رأسَه وقال: أمجنونٌ أنت؟ (وما علم أنَّه أمير المؤمنين)، فقال عمر: لا، فهَمَّ به الحرس، فقال عمر: اتركوه، إنَّما سألني أمجنون؟ فقلت: لا.

ويقال إن حاتماً الأصم (عالم زاهد ورع ت 237هـ) لقب بالأصم؛ لأنه كان يتظاهر بضعف السمع عندما يسمع إساءة أحد أو زلته.

هي دعوة للتحلي بهذا الخلق وغض الطرف عن الهفوات والزلات، وعدم الاستقصاء والتتبع لها، فكما قيل: «ما استقصى كريم قط»، وكان ذلك من منهج نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال لأصحابه: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» (أحمد).

وفرق دقيق بين التغافل والتجاهل، فإن الدافع للتغافل البقاء على المودة والمحبة، والدافع للتجاهل الازدراء والإهمال، وشتان ما بين الغايتين، وسبحان من له الكمال وحده، وصدق الشاعر:

ومَا المَــرْءُ إلا بإخْوَانِــــهِ

كَمَا يَقبِضُ الكَفُّ بالمِعْصَمِ