الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

المطلق بين المثقف والداعية

أحد الردود التي وصلتني حول المقال السابق «اعتذار القرني لا يدين الصحوة»، هو أن تغير مواقف وآراء «الشيخ» القرني وباقي «الدعاة»، يعدُّ أمراً مقبولاً شأنهم شأن كثير من المثقفين والكتاب الذين غيروا آراءهم تجاه قضايا كثيرة، وهذا الرأي يبدو صحيحاً ظاهرياًّ لو كان من أسموا أنفسهم «دعاة» يؤمنون بمبدأي (التغيير والتعدد)، ومادام ذلك ليس كذلك فهذا الرأي غير صحيح منهجياً (نسبياً).

المثقف الحقيقي لا يؤمن بالمطلق، ولا يعترف بالثوابت إلا في حدودها الذاتية والمحلية، وهو يؤمن بالمبادئ والقيم الإنسانية وبالمسؤولية والسلم الاجتماعيين، وقد تعلم المثقف من النظرية النسبية لآينشتاين أن استجابة حواسنا للظواهر تختلف باختلاف الموقع والحركة.

وعلى ذلك فهو يدرك أن كل رأي (نسبي)، ويختلف من مجتمع لآخر باختلاف التاريخ والأنساق الثقافية والسياقات الاجتماعية والسياسية والظروف الاقتصادية، والنسبية التي يؤمن بها المثقف تجعله يتفهم بواعث سلوك الآخرين ومبررات تفكيرهم فلا يحكم على الآخرين ولا ينصب لهم المحاكم.


أما من نصبوا أنفسهم «دعاة» فهم ينطقون بلغة المطلق والسرمدي، ويمزجون بين آرائهم وقناعاتهم والمقدس، فتصبح آراؤهم أكثر نفاذاً ليس لأنها مقنعة بل لأن مخالفتها تدخل المرء في أزمة ضمير.


والتعددية والاختلاف موجودان على سبيل التنظير، أما على صعيد التطبيق، فانظروا إلى الشواهد الحية وتأملوا كيف أن أتباعهم من مختلف أصقاع الدنيا يلتزمون بسمت واحد، ويتزيّون بزي واحد ويتنمَّطُون بسلوكيات موحدة لا تعرف الفوارق العرقية ولا الجغرافية ولا اختلافات الهويات الثقافية.

ويكفي أن كثيراً من «الدعاة» يرفضون مناقشة ما دُس في كتب الفقه من أنماط الحياة الصحراوية في القرون الوسطى، بصفتها تعبداً من جهة كونها سنة فعلية مقدسة صدرت عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ليست وظيفة المثقف (الحقيقي) أن يفرض آراءه وقناعاته على الناس، بل وظيفته أن يبذر أمامهم الأسئلة ويحرضهم على التفكير ويتركهم للاختيار المسؤول.. وظيفته أن يقنعهم فقط أن أهم حقيقة فكرية هي أن ليس ثمة حقيقة مطلقة في هذه الحياة.. وظيفة المثقف أن يمرن الآخرين على ممارسة الحرية، وفهم مدارجها ومسالكها، بما لا يتصادم مع الآخر.

أما الدعاة واستناداً إلى أدبياتهم، فوظيفتهم حماية المجتمع والدفاع عن الدين وتطبيق الشريعة، وفرض تعاليمها وإقامة الحدود والتعزيرات على كل من يُعارض (تصوراتهم) للدين.. ثم ماذا؟ ثم تغيرت (تصوراتهم)!!.

حين (يطور ويجدد) المثقف آراءه، فإنه يكمل المسير نحو البحث عن الحقيقة، أما حين (ينقلب) الداعية على ما كان يصنفه (ثوابت)، فتلك حكاية أخرى.