الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

اللغة العربية.. لا طفولة ولا شيخوخة

العربية لغة جميلة عبقرية، ولا تُوجد لغةٌ تضاهيها في إيجازها ومَجَازها وفي سَعة اشتقاقها، كما يقولُ علماءُ ومستشرقون غربيُّون، وهي تمتاز على غيرها من اللغات بأنَّها، كما قال رينان: «لا تُعْرَف لها طفولة ولا شيخوخة»، وهي أقدمُ اللُّغات المستعمَلَة اليوم، بعد أنْ اخْتَفَت اللغاتُ القديمة، فلَم يَبْقَ منها إلا اسْمُها ورَسْمُها.

وثَمَّةَ سِمةٌ أخرى تَنفَرِد بها العربية، وهي أنَّ قارئَها المعاصر المتعلِّم يفهم أقدمَ نصوصها المعروفة، فالفصحى التي نستعملها اليوم هي نفسُها، التي استعملها امرؤ القيس تقريباً قبل نحو ألف وخمسمئة سنة، أمَّا قارئا الإنجليزية والفرنسية المعاصران فيحتاجان إلى دراسة خاصَّة للغة شكسبير ومُوليير ليفهماهما.

ظلَّت العربيةُ قروناً طويلةً لغةً عالمية للعلم والمعرفة، لكنَّ أخطرَ تَحَدٍّ يواجهُها اليوم هو استخدامُ أهلها للإنجليزية والفرنسية بدَلَها في المجالات العلمية والتعليمية، وهذا خَطَرٌ مُدَمِّر.


فالدراسات أثبتت أنَّه لا يُمكنُ لأمَّة أن تُبْدِع إلا بلغتِها؛ لذلك أوصت «اليونيسكو» باستعمال اللغَةِ الأمِّ في التعليم، تقول إيرينا بوكوفا المديرة العامة السابقة لليونِيسكو «يَجِب علينا الإقرارُ بهذه القُوَّة الكامنة في اللُّغاتِ الأُمِّ وتَعزيزُها».


وهذا ما نَبَّهَنا إليه ابنُ خلدون قبل ستة قرون حينَ أوضح أنَّ «اللغة السابقة» (لغة الأم) ضرورية للإبداع، فهو اكْتَشَفَ أنَّ اللغات الأجنبية «حُجُب» تعوق فَهْمَ المتعلِّمِ واستيعابَه، مُقارنةً بـ «لغته السابقة».. فمَتَى يَتَنَبَّهُ العربُ لخُطورة استخدام اللغات الأجنبية وسيلةَ التدريس في المراحل التعليمية الأولى؟ نعم، لنَتعلَّمِ اللغاتِ الأجنبيةَ، لكن لنُبدعْ بلغتنا.

لقد عانت العربيةُ من غزواتِ المغول، والتهميش العثماني، والحروب الصليبية، والاستعمار الحديث، لكنَّها بَقِيَت شامخةً.. يقول جاك بيرك «إنَّ أقوى القُوَى التي قاومت الاستعمارَ الفرنسيَّ في المغرب هي اللغةُ العربية».

والآنَ نجد مَن يَزْعُم أنَّها ستموت ضِمْن اللغات المرشَّحة للموت في هذا القرن، لكنَّها لن تموت إلا إذَا بادَ العربُ جميعاً، أوْ تَرَكُوا الإسلامَ والقرآنَ، فحينئذٍ سيبدأ ناموسُ التطوُّر اللغوي (الذي عَطَّله القرآنُ أساساً) عَمَلَه، فتأخُذُ لهجاتُهم تَبتَعِد شيئاً فشيئاً عن الفصحى حتَّى تُصبح لغاتٍ مستقلةً، كما حدَث للغات الرومانسية (الفرنسية، والإسبانية.. إلخ). لكن يصعبُ التنبؤُ بحدوث مصير كهذا، وإذاً، فإنَّنَا، كمَا لا نَعرف للعربية طفولةً ولا شيخوخةً، فلن نعرف لها نهايةً في هذا القرن؛ لكنَّ موتَ اللغة شيءٌ وتطوُّرُها شيءٌ آخَرُ؛ فهذا الأخيرُ رَهْنٌ بأهلها.