الجمعة - 08 نوفمبر 2024
الجمعة - 08 نوفمبر 2024

ولد فأراً ووأد فكراً.. وأنتج فقراً!

الدول العربية تربة خصبة لغرس وزراعة الشائعات، والمناخ العربي ملائم جداً للقيل والقال وللأكاذيب، والأسباب كثيرة وأهمها: رذيلة الإنكار، فالمريض ـ مثلاً ـ لا يريد أن يعترف بمرضه ومصمم على أنه في أتم صحة بينما أعراض المرض بادية عليه، وهذه المساحة بين المرض وإنكاره هي التي تنمو فيها طحالب الشائعات، وقد يكون المرض بسيطاً جداً وقابلاً للشفاء لكن إنكاره يجعل الناس يطلقون الشائعات بأنه مرض خطير وقاتل، والذنب هنا ليس ذنب من يطلق الشائعات وحده ولكنه أيضاً ذنب من ينكر الحدث أو المرض.

وعندما تكبر الشائعات - كرد فعل للإنكار - يلجأ العرب إلى رذيلة النفي بعد فوات الأوان، فالعرب في حالة نفي مستمرة بلا انقطاع حتى صار النفي العربي في رأي الشعوب إثباتاً.. لذلك أصبحت الشائعات عصيّة على النفي وصارت الأكاذيب أقوى من نفيها الصادق.

ومأساة الفعل العربي أنه مدمن للسرية والإخفاء حتى في أكثر الأمور تفاهة، لذلك يلجأ الناس إلى إكمال الصورة بالشائعات والأباطيل، وتؤدي السرية والإخفاء كثيراً إلى تناقض واضح وتباين شديد بين الفعل والقول، فمثلاً تكون العلاقات بين الدول في غاية السوء والتوتر.. ويخرج من يقول إن العلاقات في أقوى حالاتها، وإن المباحثات مثمرة ومفيدة وجرت في أجواء ودية وأخوية.. لقد حدث في حرب 1967 ما أثار الضحك والبكاء، حيث ظل العرب طويلاً في حالة إنكار للهزيمة، بل وتحويلها إلى نصر مبين حتى انكشف المستور، ولكن العرب أصروا على الإنكار وسموها نكسة، وعندما انتصر العرب فعلاً في حرب 1973 كان الناس قد فقدوا الثقة في الرسمي العربي كله، وراحوا يطلقون الشائعات بأنها مناورة متفق عليها أو هي حرب تحريك لا تحرير، وأن الانتصار وهمي.


بعد زلزال 1967 لم يعد الناس يصدقون الرسمي العربي وهذا التكذيب مستمر حتى الآن، وأصبحت الشائعات هي الغذاء الشعبي الذي يحظى بإقبال كبير من جانب الناس، والأمر الآخر أن الشعوب العربية لا تعبأ بالحقائق والصدق بقدر ما تعبأ بالأكاذيب والشائعات، فالصدق عندنا كاسد والكذب «بياع ورائج» كما يقال.


الكذب اليوم له جناحان يطير بهما بسرعة الضوء، والصدق وحده هو الكسيح والأعرج، والمناخ العربي عموماً غير صحي، وهناك منهج سخيف في الدول العربية وهو اكتساب الأهمية للمسؤول بالغموض وعدم وضوح الرؤية والألغاز والإنكار والإخفاء، وفي النهاية تمخض الجبل العربي فولد فأراً، ووأد فكراً، وأنتج فقراً.