الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

الارتقاء بلغة الحوار

في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كان صديقي مسافراً من القاهرة إلى الصعيد، ولم يجد كالعادة كرسياً، فظل واقفاً لأكثر من ثماني ساعات، وفي بعض وقفاته، تصادف أن الجالس على الكرسي بجواره رجل صعيدي أمي، وبجواره امرأة عجوز تلتف ببردة سوداء، وهي رداء يعادل ضعفي عباءة الرجل لا يظهر منها شيئاً، وحين طالت وقفة صديقنا بجوارهم، التفت إليه الصعيدي، وبنبرة مهذبة ولكنها حادة قال له: «أبو البلديات عف عن سمانا»، فقط طلب منه أن يعف نفسه عن الوجود في سماء هذا الرجل وحرمته، سواء زوجته أو أخته.

لغة حوار راقية جداً من رجل أمي، لم يذهب إلى مدارس أو جامعات، حقق ما يريد دون أن يجرح الطرف الآخر، لكن للأسف كان ذلك قبل اختراع وسائل التواصل الاجتماعي.. أما الآن فقد تراجعت الأخلاق، وتراجعت معها لغة الحوار بل انحطت، والانحطاط هو التدني، والسقوط للأسفل، والتراجع للوراء، والفساد.

الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتواصل بين البشر، وحين يغيب الحوار يحل محلة التواصل المادي بالأيدي أو العصي أو السلاح، والحوار يكون بين المختلفين وليس المتفقين، إذ عند الاتفاق لا حاجة للحوار، وإنما يكون هناك التواصل والمسامرة، لذلك يكون الحوار بين رأيين مختلفين أو أكثر، وحجتين متناقضتين أو أكثر.


وقد انشغل الفكر الإسلامي بآداب الحوار، وآداب المناظرة، وآداب الاختلاف، وكتب كثيرون في هذه المجالات الأربعة على مختلف العصور، ولقد لخص فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد طنطاوي، رحمة الله عليه، آداب الحوار في الإسلام في كتاب مفيد عنوانه «أدب الحوار في الإسلام» 1997، كذلك كتب كثيرون في آداب البحث والمناظرة أشهرهم عضدالدين الإيجي، توفي 1355م وطاشكبرى زاده، توفي 1561 وآخرون، وقد لخص هذا التراث الشيخ حسين والي في كتابه «الموجز في آداب البحث والمناظرة» 1908.


ومن أهم أسس الإسلام أن أخلاقه، وقيمه، ومبادئه الإنسانية لها صفة الإطلاق والعموم، ولا يمكن تخصيصها أو إخضاعها للنسبية، فهذه الآداب جميعها يجب الالتزام بها مع المسلم وغير المسلم، مع من يتفق معك ومع من يختلف جذرياً معك، بل أحياناً يكون الالتزام بها أولى مع المخالفين في العقيدة، أو الدين أو الاختيار الفقهي المذهبي أو الأعداء: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (المائدة آية 8).