الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

التنافر المعرفي

عندما يعيش الإنسان ردحاً من عمره مؤمناً بمعتقد ما دون أن يواجه تحدياً لمعتقده، فإن ذلك الإيمان يدخل في مرحلة التراكم العقدي الذي يجعله يعتقد بحتمية كل التنبؤات التي ترد في هذا المعتقد.

فمثلاً، كثير من الماركسيين لا يزالون حتى يومنا هذا يعتقدون بحتمية انتصار طبقة العمال، وأتباع الديانات السماوية ينتظرون المخلص الذي بشرت به كتبهم ومروياتهم الدينية لينقذ البشرية ويقيم دولة العدل الإلهي، وهكذا دواليك.

لكن النقطة الخطيرة تتمثل في حال وجود بشارة نبوءة محددة بزمن أو قرينة معينة لا تحتمل اللبس، وعندما تستوفى شروط الوفاء بهذه البشارة النبوءة لا تتحقق، فإن ذلك يوحي للوهلة الأولى بتناقض بندين من بنود البنية المعرفية للمعتقد، هنا يدخل المؤمن في حالة تسمى بـ«التنافر المعرفي» (Cognitive Dissonance) والتي تشكل نقطة تحدٍّ مفصلية للمنظومة الاعتقادية على مستوى الفرد والمجموعة.

إن ارتباط أعضاء الجماعة المؤمنة بمنظومة اعتقادية قوية ترتبط بأفعالهم وسلوكياتهم، قد تدفعهم إلى الإقدام على بعض الخطوات والأفعال المهمة التي يصعب التراجع عنها، ما يجعل إيمان الفرد بمعتقده شديد الرسوخ.

وفي حال كان الاعتقاد محدداً بما فيه الكفاية ومرتبطاً بالعالم المادي، بحيث من الممكن أن تدحض الأحداث نبوءة هذا الاعتقاد بشكل لا لبس فيه، فإن الأدلة على فشل المنظومة الاعتقادية في الوفاء بالبشارة النبوءة ستكون واضحة ومحرجة لأتباع ذلك المعتقد بشكل يصعب إنكاره، وفي هذه الحالة، يأتي الدعم الاجتماعي من أفراد الجماعة لبعضهم البعض من أجل إعادة الثقة للمعتقد، والتشكيك في أصل فشله في الوفاء بشارته.

تشكِّل استراتيجية المقاومة الداخلية لأصل فكرة التنافر خط الدفاع الأول للمعتقد ضد تحدي «التنافر المعرفي»، وذلك من خلال الحماية الشخصية للعقيدة بتأكيد القناعة العميقة والالتزام الذاتي، من أجل إعداد المؤمن لمقاومة أي تشكيك في صحة معتقده.

ثم تأتي الخطوة التالية التي تقاوم الضغوط التشكيكية القوية التي قد تُمارس على المؤمن، عن طريق مساعدته على تجاهل تلك الضغوط، بل ومواجهة أصل الفكرة القاطعة بفشل البشارة النبوءة، وأخيراً، يأتي الدعم الاجتماعي لتعزيز حفاظ المؤمن على معتقداته بدفعة حماسية جديدة.

هنا يقترح عالم الاجتماع الأمريكي «ليون فيستنجر» 3 طرق للحد من التنافر يصوغها على شكل 3 خيارات قد يمارسها المؤمن، ليتحايل على أصل فكرة التنافر، فهو إما أن الشخص يحاول تحوير بعض أجزاء معتقده أو الآراء أو السلوكيات التي يعتريها التنافر من أجل الوصول إلى نقطة الانسجام، أو قد يحاول الشخص اكتساب معلومات جديدة تعزز الاتساق القائم داخل المعتقد، وبالتالي يقلِّل التنافر التام، أو قد يحاول الشخص تجاهل أصل فكرة التنافر داخل معتقده أو التقليل من أهميتها.

هذه الاقتراحات، التي تتباين بين التحوير، للتحديث، إلى التجاهل، تؤمِّن مخرجاً آمناً من قلق الشعور بالتنافر المعرفي، وتعبر بأصحابها إلى بر الأمان بترسيخ الإيمان بالمعتقد من خلال إنكار أصل التنافر وعلاجه، بإعادة تفسير أصل فشل النبوءة وإضافة تفاصيل مسكوت عنها.

فلنطبق هذا الإطار النظري على كثير من المعتقدات الدينية او الاجتماعية أو السياسية التي نتبنّاها، لنجد أن نفسية الإنسان بطبيعتها تميل إلى المحافظة على منظومته المعرفية وتستخدم طرقاً عدة من أجل مقاومة التغيير والتحديث، ومثل هذه التحديات تبدأ بالفرد وتمتد إلى المجتمع.