الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

بيت الأسرة الإبراهيمية... توازنات الأمن الديني ما بعد الاضطراب الفكري

بيت الأسرة الإبراهيمية... توازنات الأمن الديني ما بعد الاضطراب الفكري

إن السلم الاجتماعي هو الغاية الحقيقية من حوار العرب المسلمين مع الآخرين؛ فالسلام هو الأداة الأفضل لتوضيح رسالتهم بالقناعة الفكرية لا بالعنف أو الإكراه، وعادة ما يكون الحوار الديني خارج نطاق النصوص الدينية المُلزمة لمعتنقي كل دين على انفراد. وإن لزم الأمر، يمكن الاستعانة بالأحكام المُتعلقة بالنظم السياسية والاقتصادية والمجتمعية وتأصيلها في قوالب تتناسب مع المتغيرات الزمانية والمكانية بما لا يخالف الإطار العقائدي العام.

إن الحديث عن تأسيس بيت الأسرة الإبراهيمية بالعاصمة الإماراتية أبوظبي على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام تناول الصِّعَابِ الفكرية في غير محلها الديني أو الاجتماعي، ويمكن توضيح ذلك من خلال شرح عمق رؤية ورسالة الحوار الإماراتي بالمقارنة مع تجارب حوارية سابقة.

الحوار المدني والمقدسي

أعظم المحطات الحوارية التي احتضنها العرب مع غير المسلمين، كانت الأولى في عهد النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم والتي عُرفت بوثيقة المدينة المنورة، والثانية في عهد صاحبه عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» في بيت المقدس، وكل مرحلة كان لها أحكامها الفقهية بما يتوافق مع المعطيات الزمانية والمكانية.

هناك بعض الفروق بين الحوارين، المدني والمقدسي؛ فوثيقة المدينة المنورة كانت بين أتباع عدة أديان ينتمون للعرق نفسه في وطن واحد، كما أن جميعهم يتحدثون لغة واحدة وهي العربية، بينما الحوار الذي ارتضاه الصحابي ابن الخطاب في بيت المقدس كان بين أتباع عدة أديان متوافدين من الشرق والغرب، متعددين في الأعراق واللغات.

وثيقة المدينة المنورة هي أشبه بضمان حقوق غير المسلمين التعبدية على أرض الإسلام. بينما في بيت المقدس، أرض التعددية الدينية، كان الحوار المقدسي بمثابة الاعتراف المتبادل بين المسلمين والمسيحيين واليهود بحقوق كل دين على هذه الأرض، وهو ما فعله الصحابي ابن الخطاب عندما أعطى المسجد الأقصى للمسلمين والصخرة لليهود مع عدم الاعتراض على وجود الكنائس المحيطة بهما.

كما أن الحوار المقدسي بين المسلمين والمسيحيين واليهود لم يتأثر بالخلافات السياسية بين العرب المسلمين وغير المسلمين في الجزيرة العربية، والشاهد أن الصحابي ابن الخطاب لم ينتزع شيئاً من حقوق اليهود والمسيحيين في بيت المقدس بسبب هذه الخلافات.

الحوار المسيحي واليهودي

بعد أن هاجر الفيلسوف اليهودي موردخاي بوبر إلى فلسطين عام 1938، بدأ بتعليم نوع جديد من الفلسفة الإنسانية اليهودية، وهي الفلسفة الداعية إلى الاعتراف المتبادل بين الديانات السماوية الثلاث؛ حيث أدرك أن الأديان الثلاثة ترتبط ببعضها بمجموعة من المفاهيم الأساسية.

وفي عام 1962 انعقد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني لتعزيز الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية وبقية الكنائس المسيحية أولاً، ثم الحوار بين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والديانة اليهودية ثانياً. وفي عام 1971، دعا المجمع الفاتيكاني لتوسيع دائرة الحوار المسيحي ليشمل الإسلام وباقي المعتقدات غير الإبراهيمية.

لقد مرّ حوار الأديان في أوروبا بمراحل متعددة، أهمها رغبة الفاتيكان وبعض اليهود في إزاحة أو تحييد الخلافات العقائدية التي ورثوها من التاريخ القديم من أجل تحقيق التعايش السلمي بينهما، والذي سمّاه الفاتيكان بحوار «الحياة اليومية» لغرسه بين الطلاب في المدارس والجامعات، وفي جميع الجوانب العلمية كالمستشفيات والمعامل الصناعية.

وقد شرحت د. كلير آموس منسقة برنامج حوار الأديان في مجلس الكنائس العالمي مفهوم حوار الحياة اليومية من خلال «مثال» يوضح غاية الفاتيكان بعيدة المدى من الحوار بين الأديان، وهو التآلف بين طبيب مسلم وطبيب مسيحي لشرح دور الإسلام في الوقاية من مرض الإيدز.

لم تشهد أوروبا بتاريخها أن تكون أراضيها مهداً للنهضة العلمية والإنتاج الصناعي بالشراكة مع معتقدي غير الديانة المسيحية كما هو بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن هجرة الكثير من المسلمين لأوروبا والأمريكيتين وتوافد اليهود إلى فلسطين هو أيضاً ما فرض لزوم الحوار بين الأديان.

معوقات حوار الأديان

إن الأهداف السامية التي أسسّها العرب وفق منظورهم للتعايش السلمي مع أتباع الأديان لم تكن لتتعارض مع مقاصد المسيحيين واليهود في حوارهم الثنائي والدولي، ولكن بعض الصعوبات والمعوقات انبثقت من الحواضن الاجتماعية السلبية، التي كان لها التأثير الضار على العلاقات بين أتباع الديانات الإبراهيمية وغيرها.

بدأت هذه الحواضن بالنمو بعد فتنة الجراجمة الفرس الذين تربّصوا للعرب بعد دخولهم بيت المقدس طوال العهد الأموي، ثم تغلغل الأعاجم في العهد العباسي والعثماني، بالإضافة إلى انتشار التشيع الفارسي واستحواذه على بيت المقدس عقوداً من الزمن. وجميع هذه الفتن تعود للفهم غير الصحيح للنصوص القرآنية والنبوية في العلاقة بين الدين والسياسة، ما خلق فجوة داخل المجتمع المدني محقونة بمصطلحات الجهاد والقتال وفق المفهوم غير العربي المستورد من الفرس والترك وبلاد ما وراء النهرين.

ومن أهم المعوقات في العصر الحديث وخاصة في الشرق الأوسط، هو انتشار الشيوعية في العراق وبلاد الشام، حيث عمل الشيوعيون على تقديم المبادئ السياسية وتقديسها بنفس العمق المتطرف الذي يقوده الإخوان المسلمون حالياً، حتى أصبحنا اليوم أمام عقيدة جديدة حالها أشبه بأيديولوجية الشيوعي الروسي مكسيم غوركي المتأصلة على مبدأ «خُلقنا لنعترض»، وهي رفض كافة مبادئ الوسطية والاعتدال وممانعة كل شيء فيه ليونة ومرونة.

أوضحت الباحثة كلير آموس أن البابا يوحنا بولس الثاني كان مُنصبّاً كفاحُه بالدرجة الأولى ضد الشيوعية من خلال رؤيته لتشكيل تحالف يضم جميع الأديان ضد النظام اللاديني الجديد، وليس بعيداً عن دعوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لتوحيد البيت الإسلامي من أجل الحوار مع الأديان الأخرى لمواجهة الخطر اللاديني الإلحادي.

يمكن القول إن الصعوبات التي واجهت الفاتيكان والسعودية وبعض اليهود المحافظين تمحورت في عدم القدرة على خلق التوازن العملي بين الفكرة الدينية والمشروع اللاديني، ويرجع ذلك إلى سيطرة الثاني على الساحة العملية كالإعلام والجامعات والنقابات وكافة المنتديات الحقوقية، غير قدراتهم الفائقة على دمج المصطلحات الجهادية «الشعبوية» بمشروعهم اللاديني من خلال تحالف الإخوان المسلمين معهم.

الحوار الإماراتي العربي

هناك العديد من الشواهد التاريخية التي أشارت إلى قبول العربي المسلم الحوار مع غير المسلمين، وإن كانت نادرة بعض الشيء، لأن الحوار بين الأديان عادة ما يكون مرهوناً بالتوازنات الحسّاسة بين حفظ الدين من التخريب الفكري وحفظ دولة القانون من عبث الدين السياسي، أو الذي نعرفه في بلادنا بالإسلام السياسي.

إن التوازنات الدينية لها أبعاد قد لا تكون ظاهرة وفق الضرورة التي تراها الدولة الراعية للدين، فالحوار الذي قاده النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وما ينطق عن الهوى، شرّع المواطنة والمساواة بين الأديان المتعددة في الدولة الواحدة، والحوار العمري في بيت المقدس كذلك، وإن كان هناك بعدٌ آخر حسب خصوصية بيت المقدس، وهو البعد الذي حصر المواطنة المقدسية بين المسلمين والمسيحيين واليهود فقط دون أن يعطي الفرس شيئاً منها.

الفيلسوف اليهودي موردخاي بوبر ربط قيام دولة إسرائيل بتحقيق التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو البعد اليهودي المعتدل، بينما اقتصر البعد المسيحي في الفاتيكان على حصر الخلافات الدينية ضمن المجامع المختصة بها، ليس من أجل مواجهة التطرف والإرهاب حينها، بل من أجل تسهيل تبادل المعلومات العلمية والمنتجات الصناعية بين جميع دول العالم دون فرض حواجز دينية عليها أو تصنيف المنتجات وفق الهوية الدينية، على سبيل المثال، فاكهة يهودية، وسيارة مسيحية، وتمور إسلامية.

لا شك أننا نعيش اليوم مرحلة تقاربت فيها بعض التوازنات الدينية والسياسية، وهذا من النوادر التاريخية، حيث يسعى الفاتيكان لتحرير مسيحيي العراق والشام من الهيمنة الفكرية الشيوعية الفارسية، وكذلك إسرائيل التي أخذ قلقها يقربها من الفاتيكان والعرب بعد أن أرهقها اليسار اليهودي الذي تغذيه الشيوعية العربية.

فما أحوجنا اليوم إلى خطوة تقودنا لتحالف الأديان السماوية، حيث التقت الأهداف بعد سقوط حقبة القومية العربية التي أسسّها التحالف الشيوعي وتسّلق عليها التيار الإسلامي، فما يحدث في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن هو نتاج لهذا السقوط الأيديولوجي الشنيع، كما لا يمكن إنقاذ هذه المنطقة العربية إلا باتباع أحد النماذج العربية المشرفة في الحوار مع الآخرين من الأديان السماوية.

إن الخلافات الدينية انتشرت بين الشعوب كالنار في الهشيم، وأشبه ما يمكن وصفه لحالنا اليوم، هو أن الشعوب تخوض حروباً بالوكالة عن السماء كما كانت عليه الأساطير القديمة. حيث لا بد من تحصين الأديان السماوية ضمن محطاتها الطبيعية في الاختلاف المنطقي من خلال رسم خارطة أمن فكري جديدة لـ100 عام قادمة لإصلاح الاضطراب الديني الذي غرسه التحالف الإسلامي الشيوعي تحت مسميات القومية العربية والمقاومة والممانعة.

إن البيت الإبراهمي ليس لتوحيد الأديان السماوية وغيرها بدين جديد كما يدّعي الإخوان المسلمون في أهزوجتهم اللادينية «خُلقنا لنعترض»، كما أنه ليس مؤامرة على عقيدة الولاء والبراء وفق المنظور مُشتت الأبعاد، بل هو منظومة تسلسلية مأخوذة من التاريخ تعمل للحفاظ على التوازنات الدينية أمام موجة لادينية مُشبعة بالتطرف غير معروف ولاؤها لمن أو براءتها ممن.