الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

سقفٌ لسعادتنا

مؤخراً، وبعد إطلاق إحدى المبادرات المؤثِّرة اجتماعياً، شعرت بسعادة لا توصف.. فتلك المبادرة تشبه بذرة زرعناها لتنمو خلال سنوات، لنجني ثمارها جميعاً، بإذن الله.

وأنا في طريقي إلى المكتب، بادرت لأشكر زميلتي على جهودها في إنجاح المبادرة ولأبارك لها إنجازها.. فوجدتها بعيدة عن سعادتها، والفرحة التي غمرتني لم تقترب منها، بل على العكس، بدت مُحبطةً إلى حدٍّ ما، وعندما سألتها عن السبب قالت: إن الإنجاز لا يُذكر بعد، وإنها لن تسعد حتى ترى أثر مشروعها بالأرقام يستفيد منه المئات والآلاف، وإن غير هذا لن يسعدها!

أظن أننا، نحن الشباب، أمام خطر كبير، وأنّ البعض منّا ارتكب خطأ كبيراً.. ويبدو أننا ومثلما رفعنا سقف طموحاتنا وأحلامنا وعملنا وإنجازاتنا، رفعنا معها سقف سعادتنا.. وفي هذا خطر يدفعنا نحو التعاسة،.. صنعنا من خيالاتنا معايير وسقفاً للتوقعات لنعيش لحظة سعادة، ونؤجلها دون أن نقصد.. وهو سقف بحسابات مختلفة، فكلَّما انخفض زادت قيمته، وكبر أثره، وعلا بكافة جوانب حياتنا.

فهل يُعقل، مثلاً، أن تُحرم الأم سعادتها عندما تُرزق بمولودها بحُجَّة أنها لم ترَ وليدها مهندساً أو طبيباً أو مؤثراً في مجتمعه؟ وهل من المنطق أن نحرم شاباً فرحة أول حجر أساس لبناء بيت العمر، لأنه لم يسكنه بعد؟ والأمثلة كثيرة ومتنوعة، وجميعها تؤكد أمراً واحداً، وهو أن السعادة والفرحة لا ترتبطان بوجهةٍ أو نتيجةٍ مُعيَّنةٍ، بقدر ارتباطهما بعاداتنا وسلوكياتنا وفكرنا وامتنانا.

يصف كثيرون الممر ذا السَّقف المنخفض المؤدِّي إلى باب الطائرة بممر السعادة، وهو وصف جميل، في تقديري، ففيه وصف لتجربة السفر قبل انطلاقها، فلم ترتبط السعادة بالوجهة النهائية للسفر، بل بتجربة السفر من بدايتها، وهكذا هي ممرات حياتنا، سواء كانت مهنية أو أكاديمية أو اجتماعية، نستطيع أن نجد السعادة في تفاصيلها وخلال الرحلة نفسها، فكل مهمة أُنجزت تستحق أن نفرح بها، وكل مناسبة مهما صغرت، فيها حصة من السعادة، وفي كل يوم جديد دعوة للشعور بالامتنان والسعادة على حالنا، فنحن، بحمد الله، أفضل حالاً من الملايين حولنا.

خلال سنوات العمل الماضية، تعلَّمت أن الاحتفاء بالإنجاز والشعور بالامتنان والسعادة بالإنجاز لا يقل أهمية عن أثر الإنجاز نفسه.. أثناء عملي مع فريق معالي عبدالله البسطي، على تنفيذ العديد من المبادرات والمشاريع، كان يتغيَّب بعد زحمة العمل وانتهاء المشروع ليوم واحد.. بغض النظر ما إذا كان مشروعاً صغيراً أو عملاقاً، أو إنجازاً متواضعاً أو كبيراً. فسألت أحد المقربين منه عمَّا يفعله في هذا اليوم، لعلِّي أتعلم درساً جديداً في الإدارة والقيادة، فهل كان تغيُّبه للحصول على يوم راحة بعد ليالي الجد والتعب؟ فأجابني إن (بوشذا) أي معالي عبدالله البسطي، اعتاد أن يسافر لأداء العمرة بعد كل إنجاز، حامداً شاكراً ممتنناً، مهما صغر الإنجاز أو كبر، كان يترجم سعادته حمداً وشكراً وامتناناً لله، سبحانه وتعالى.. وكذلك خلال سنوات عملي ضمن فريق معالي محمد القرقاوي، تعلَّمت عادة مؤسسية راقية، فبعد العمل على كل مشروع، وختام كل فعالية، كانت تصلنا دعوة لاجتماع مباشر مع معاليه.. اجتماع بلا طاولة أو أقلام أو انتقادات أو بيانات أو تحليلات.. كان لقاء فرحة وسعادة وابتسامة، اجتماع للاحتفاء بالإنجاز نتشارك خلاله أرقى المشاعر الإنسانية، مشاعر الامتنان والسعادة والفرح.

ورغم حرص معاليه على تخصيص وقت لتقييم التجربة ومراجعة الأداء وبحث مَواطن التطوير والتحسين لمضاعفة الإنجاز والأثر، إلا أنه لم يغفل يوماً عن ترسيخ بيئة إيجابية مصحوبة بالسعادة، لنتلعم أنه لكلِّ مقام مقال، وأنه لكلِّ شيء وقت وحصة لكيلا نربط سعادتنا بما هو بعيد ومؤجل، ولكيلا تأخذنا مشاغل الدنيا عن جمال بساطتها وننعم بحصتنا من السعادة.

أتعوَّذ بالله من السلبيين التُّعساء (وكلاء النكد) أولئك الذين لا يُفوِّتون فرصة للانتقاص من حجم العمل وكأنهم خبراء في إبعاد الفرحة والسعادة، كشيطان يسعى إلى بثِّ الحزن في بيوتنا ومؤسساتنا وحياتنا، أعوذ وإياكم من سوء طباعهم، وأستذكر معكم أن الغايات والتطلعات مهما ارتفعت، فلا بد أن نضبط ارتفاع سقف سعادتنا، ليبقى قريباً ملموساً ومعيشاً ندركه في كلِّ يوم من عمرنا.