الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

«عبدالحي محمد».. رحلة المنبع والمصب

لم يكن «عبدالحي محمد»، الذي رحل عن دنيانا، يوم الاثنين الماضي، في حياتنا الصحفية العربية حالة عابرة، ذلك لأنَّه عمَّق حضوره الإعلامي بالكد والاجتهاد والمثابرة، وتميّز في كل حين ببسمة «ربَّانية» جذبتنا إليه، بل إنها كانت تشد إليها كل من يبصره عن قرب.. لقد كنّا نستأنس بوجوده حيّاً، واليوم تحاكمنا أخلاقيَّاته ومهنيَّته وصبره ـ في حِلّه وترحاله بين الصّحف ـ فنشعر بلوعة الشوق إليه في أيام رحيله الأولى.

عبدالحي، أيها الفقيد الغالي لقد تركت «ثلمة» في الصحافة العربية خلال زمن دنا فيه أفول نجمها، ضمن سياق عالمي موغل في وحشية لدخلاء على المهنة، جاسوا خلال الديار مثلما هي الحال في مجالات الحياة الأخرى، وإنك بتميزك المعهود، أريتنا وجهاً أكثر إشراقاً في بيئة المصب (الإمارات)، ووجهاً أكثر وفاء وانتماء آتياً من بيئة المنبع (مصر)، حيث تقلصت الحدود إلى درجة التطابق، وبذلك كنت نموذجاً للعطاء بحسابات الزمن، وتعلقاً بالمكان، وذلك هو الحب، بعيداً عن الخوف لقهر أو مطاردة من البشر لأسباب الرزق، ما جعل عمق التجربة لديك قوة للبقاء والاختيار والانطلاق، وبذلك سَعَت الصّحف إليك كلما تقدم بك العمر.

منذ عشرين عاماً التقينا في جريدة «الاتحاد» بأبوظبي، كنتَ لحظتها قادماً من جريدة «الخليج» ـ الشارقة، وأنا قادم من جريدة «العالم اليوم» ـ مصر، في مسار كنتُ أحسبه لن يطول إلى هذا الحد، حيث كنت أنتظر نهاية الإرهاب في الجزائر، لتبدأ رحلة العودة من جديد، أمل سيحسم فيه القدر، ثم افترقنا داخل الإمارات، ومع ذلك كنا نسمع أخبارنا أو نسترق السمع إليها من الآخرين، وأحياناً نادرة كنا نلتقي في محطات عبور، فيأتي سلامك عليّ دائماً مصحوباً بابتسامتك المعهودة.


وفي حديثنا القصير ـ خلال اللقاءات العابرة ـ تطغى علينا هموم مهنة طوعّتنا لصالحها، وحمَّلتنا الأرق والتعب، حتى قضت على كثير من أمثالنا ـ في العالم كله ـ وأورثتنا أمراضاً مختلفة.. مهنة ترفض الشَّراكة حتى لو كانت عاطفيّة وطبيعية تجاه الوالدين والصاحبة والأبناء، وتجعلنا نستجيب لأوامرها طوعاً وكرهاً.. فهل سيدرك الذين نتعامل معهم، خاصَّة من يريدون أن نزين أقوالهم وأفعالهم، وما هي كذلك، أن وظيفتنا إن صدقنا فيها وأتقنّاها، حققنا جزءاً قليلاً وبعيداً من رسالة النبوة؟.. وأحسب أن عبدالحي محمد ـ رحمه الله ـ قد حقق ذلك من حيث يدري أو لا يدري.