الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

بين السجن والشجن

أكثر من يتمنى تكاثر الأسماك في البحر هي الحيتان، وأكثر من يخشى تخويف الأرنب لئلا يدخل الجحر هو الثعلب، وأكثر من يحافظ على هدوءه لكيلا يزعج الطيور هو الصياد! باختصار أكثر من يمنح الأمان للفريسة هو المفترس! ولذلك لا أرى عجباً فيمن يصنع أجمل الألحان الموسيقية، ثم يعيث فساداً بالسلوكيات اللاأخلاقية! هكذا قد تبدو بعض الآراء المنطقية وربما اللامنطقية، عندما تصف بكل أمانة ومصداقية، الوجه المظلم لأبعاد النغمة النقية، وذلك في بعض الشخصيات المضطربة والشقية، وهنا تأتي قصة (هنري كويل) الحقيقية.... وطبعاً للحديث بقية!

لم يختر الموسيقار الأمريكي (كويل) أن يولد بائساً أو فقيراً، ولكنه إلى حدٍ ما اختار أن يكون مختلاً ولا بأس إن قلنا حقيراً، فبالرغم من أنه تميز بين أهم الملحنين الأمريكيين ابتكاراً في القرن الـ20، فإنه زج خلف القضبان ليصبح صاحب اللحن السجين، بعدما اعترف بذنبه القبيح وأقر بجرمه المشين، ولعله بذلك أراد أن يخفف من وطأة شعوره بالذنب اللعين، فكافئه الزمن بأن يستمر إبداعه في التلحين، من داخل زنزانته رفقاً بإحساس الندم وبالمرار الحزين، حيث قام بتدريس زملائه السجناء، ثم نشر موسيقاه في جميع الأنحاء، واستمر بهذا إلى أن حصل على العفو، ومع ذلك لم يصفُ له الجو، فقد خاصمه أغلب الفنانين، ولم يصدقه حتى المجانين!

غطت موسيقى (كويل) نطاقاً واسعاً من حيث التعبير والتقنية، ولم يجد آنذاك مؤلفاً آخر ينافسه في الساحة الفنية، فقد تميز بمزج مختلف الآلات بكل انسجام، والتي اتهمها الكثيرون بالفشل التام، لتقر الوقائع أنه لا يوجد ملحن مثله في عصره استطاع أن ينتج هذا الكم والكيف من الأعمال الجذرية، ولا حتى القليل من مستوى مؤلفاته الشاملة للغاية والمتغلغلة في النفس البشرية، لنتأكد أنه المبدع الذي ارتكب أموراً غير طبيعية، ثم صاغها للعالم لحناً بصورة طبيعية.