الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

ثورة معكوسة يفجرها فيروس

عرّف الفيلسوف الفرنسي الأشهر في القرن الـ20، جان بول سارتر بمقولته: «الآخرون هم الجحيم، ولكن من خلال الآخرين أرى نفسي»، وقد لاقت تلك المقولة إعجاباً شديداً لدى فئات من الشباب حول العالم في الخمسينات والستينات، كما لاقت كثيراً من الاعتراض، حيث كان سارتر يواجه بمقولته، الأفكار والفلسفات الشمولية التى شاع بعضها أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، ثم تبخرت الوجودية كلها، وتبخرت معها الفلسفات الشمولية، وجرت في نهر الفكر الفلسفي أفكار ورؤى جديدة.

وفي عالمنا العربي تزايد النداء منذ عقود، بضرورة قبول الآخر والعيش المشترك معه، الآخر هنا، ليس بالمعنى الفكري والسياسي فقط، ولكن بالمعنى الديني والمذهبي، وبالمعنى العرقي واللغوي كذلك، فعُقدت مؤتمرات كبرى، وأُقيمت ورش عمل، وتأسست معسكرات، دعا إليها كثير من الأطياف المختلفة، ليعتادوا التعامل والتفاهم معاً، ويدركوا أن العيش معاً، ضرورة.

ثم غزا العالم «كورونا» ليطلق صيحة، ملخصها «الفيروس القاتل هو الآخر»، وبدأت المواجهة بتجنب الآخرين، فلا مصافحة باليد، ولا أحضان، ولا قبلات، كل هذه المشاعر لا يجب التعبير عنها باللمس ولا بالاقتراب، تكفي النظرات من بعيد، ثم تحولت الدعوات إلى أوامر، بتجنب الذهاب إلى النوادي والمطاعم والمقاهي، لا مجالس عزاء، ولا حفلات أعراس.


وكذلك تعليق صلاة الجماعة، بالنسبة للمسلمين في المساجد، والمسيحيين في الكنائس، والبلاد التي لم تعلق فيها صلاة الجماعة، مثل مصر، طالب المختصون بتوسيع المسافة بين الصفوف، وضرورة وجود فرجة بين المصلين.. دعك الآن من كل المخاوف السابقة، من أن الفُرجة سينفذ منها الشيطان بالضرورة ويُفسد الصلاة، الآن كورونا أخطر وأشد من الشيطان.


وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فكورونا يطالبنا بإعادة صياغة العلاقة بين أعضاء الجسد، لا يصح أن تلمس يدك فمك أو أنفك أو عينيك والوجه عموماً، باختصار قطيعة بين يديك وأعضاء الوجه، وحتى الآن، فإن هناك انصياعاً كاملاً، وتخيل أن الشعب الإيطالي حُدِّدت إقامته داخل البيوت، ولو أن موسولينى خرج من قبره، ما نجح في أن يفعل ذلك، لكن كورونا فعل ذلك.

نحن أمام ثورة حقيقية في العالم كله، بطلها فيروس صغير، شملت الثورة، الدول الديمقراطية والديكتاتورية معاً، الشمال والجنوب، الرجال والنساء، الأغنياء والأشد فقراً.. إنها ثورة جديدة تماماً، وكل الثورات في التاريخ قامت على أن ينزل المواطنون إلى الشارع ويلتحمون معاً، لتشكيل كتلة بشرية ضاغطة، آخرها ما جرى في الجزائر والسودان والعراق ولبنان، العالم الماضي، لكن ثورة «كورونا» تطالب بالانسحاب من الشوارع والمنتديات العامة، سواء كانت دينية أو مدنية.