الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

هل يخسر العالم ضد الجوائح؟

أجّل الإنسان، اليوم، الاقتتال ضد نفسه ونظيره، وهو يحشد قواه العلمية ويُجّمع ذخيرته وعتاده لخوض حرب لم يكن يضعها في الحسبان.. إنّها حرب ضد الوجه الآخر للطبيعة، متمثلاً في فيروس كورونا، ولحد الآن، لم ينفعه علمه ولم يعرف أيّ سلاح يستخدمه لخوض غمار المواجهة، ما عدا الدعوة إلى الوقاية الصحية، والنصيحة بالانعزال الذي أصبح عملياً، بتقييد التجمعات، وإغلاق المدارس والجامعات والمتاجر والمتاحف، وإلغاء المواعيد الرياضية والثقافية، ثم قطع الحدود ما بين الدول.

إنها، حقاً، حرب حقيقية تعلنها الطبيعة ضد الإنسان، بعدما ضاقت ذرعاً منه وهو يبالغ في تخريبها وفي التدمير المتدرج للكوكب.

لم يبتعد الفيلسوف نتشه عن أستاذه شوبنهاور، بالتأكيد على أن الطبيعة لها منطق «هارموني» أي قائم على توازن داخلي، هو الأصل في استمرار الحياة، وكلما حدث الاعتداء على هذا التوازن، أفرزت الطبيعة مقاومات قوية ضد الإنسان، لاسترداد توازنها المنتهك، إنّه التأويل نفسه الذي انحاز إليه قبلهما الفيلسوف بركلي، وهو يدمج في فلسفته المثالية الذاتية في تفسيره للزلازل والجوائح التي ضربت الإنسان على مرّ العصور.


لا شك أن الاعتداءات المستمرة للإنسان ضد الطبيعة، كإنتاجه «الأناني» بمنطق ربحي للنفايات وللأسلحة الفتّاكة بكل أصنافها، وشرعنته للعلاقات الجنسية غير الطبيعية، كفيلة بخلق هذه التشوّهات التي بات إفرازها تعبيراً عن حدوث


(لا توازن) في الطبيعة وعن خلل في علاقة الإنسان بها.

في السياق نفسه، نعتبر أن ما أحدثه كورونا من ارتباك اجتماعي ونفسي، شمل الأفراد والدول، قد أماط اللثام عن فشل النظام الدولي الجديد الذي تتزعمه أمريكا، كما كشف الحقيقة عن الخلفيات القيمية لهذا النظام الذي جنّد كل طاقته وابتكاراته للارتقاء بالليبرالية المتوحّشة، التي اهتمت بقيمة الأشياء على حساب الفرد وأمنه الإنساني.

ونتيجة لذلك يخوض العالم حرباً ضد عدو من صنيعه الذي لا يشبهه، ولن ينتصر عليه أبداً، إذا لم يقلب معادلته بجعل الفرد محور عمليات التحول، وبناء نظام متماسك ومنسجم، قائم على السلام والعدالة الكونية التي لا يكون فيها الربح هدفاً على حساب الإنسان.

إذا استمرت صيغة النظام الدولي الذي تقوده الليبرالية المتوحّشة، التي لا يهمها تدميرها المستمر للطبيعة ونشرها للبشاعات، مقابل تكاثر أرباحها وتسريع مراكمتها، فإن الطبيعة ستفرز فيروسات أكثر تطوراً، تتجاوز قدرة هذا النظام على القضاء عليها، حينئذ سندخل حرباً جديدة لن يكون طرفيها الإنسانُ ونظيرُه، وإنّما الإنسان وجيش ذكي ومتطور من الفيروسات، أو بين الإنسان والطبيعة، بمختلف مكوّناتها الضارة والنافعة، آنذاك سيضع العالم قدمه على عتبة الفناء.

ووفق المؤشرات المقلقة التي باتت تظهر عبر تحولات المناخ، وندرة المياه والعودة المسعورة إلى سباق التسلح وابتكار أسلحة الدمار الشامل، وظهور أمراض جديدة ومتطورة، ونشوء قيم مناقضة للطبيعة الإنسانية، فإن الحرب المقبلة ستُحسم لمصلحة الجوائح والأوبئة.