السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

اليمن.. والحكم الذاتي الجنوبي

كانت زيارتي الأولى إلى اليمن في صيف عام 1971، وهو يتعافى من حرب أهلية مُدمّرة، وكان الجنوب منذ عام 1967 يحمل اسم «جمهورية اليمن الجنوبي الديمقراطية الشعبية»، بعد أن بقي تحت الحكم البريطاني لأكثر من قرن من الزمان.

كانت مدينة تعز التي نزلت فيها من على متن طائرة عتيقة قادماً من مستعمرة جيبوتي الفرنسية، تمثل بوابة دخولي لأول مرة إلى هذا البلد العجيب والغامض، وكان الباص الذي سينقلنا إلى صنعاء يسير فوق طريق يتم بناؤه بمساعدة سوفييتية، وبدا كأنه مهجور لا يتضمن أرضاً معبّدة بل مجرد قطع من الأحجار، التي كان على الباص أن يتسلقها حتى يشق طريقه.

وبعد يوم شاق وطويل من السفر، ظهرت أطراف مدينة صنعاء، وكان البناء الوحيد القائم خلف الأسوار الشاهقة للمدينة هو فندق بلقيس الذي انتهى بناؤه حديثاً، وبدا لي كأنه تركيب هندسي غريب هبط من كوكب آخر، وأقحمت نفسي في أحد أسرّة فندق محلي ينام فيه الزبائن على مراتب مفروشة على الأرض.


لم تكن هناك سيارات ما عدا سيارة «موسكوفيتش» متهالكة، تكدس فيها عدد من الأطباء الصينيين أثناء ذهابهم إلى المستشفى، وكان الصينيون يحظون بالترحيب، وكانوا قد انتهوا لتوّهم من تشييد أول طريق معبّد في اليمن كله، وهو إنجاز مهم في منطقة وعرة تؤدي إلى ميناء الحديدة.


وفي هذا الوقت من زمن الحرب الباردة، كان يبدو بوضوح أن صنعاء متحالفة مع الغرب، وكانت عدن متحالفة مع الشرق، وكانت صنعاء ترحب بكل المساعدات التي تأتيها من الخارج.

وبعد 30 عاماً، اتّحد شطرا اليمن على أثر سقوط الكتلة الشرقية، وكان الغرب في حالة ابتهاج، ومن المعلوم تماماً أن اليمنيين شعب واحد امتزجت فئاته منذ آلاف السنين، وهم مؤسسو الحضارة القديمة التي ينظر إليها على نطاق واسع على أنها مهد الحضارة العربية، إلا أن اليمن بلد غني أيضاً بتنوّع مشارب وثقافات ومعتقدات مواطنيه وقبائله وطريقتهم في العيش، وهم ينتمون لبيئات مختلفة من الشواطئ البحرية حتى الصحراء، ومن الصحراء حتى قمم الجبال وأعماق الوديان.

وخلال الأسبوع الماضي، أعلن «المجلس الانتقالي الجنوبي» قراره باختيار طريق «الحكم الذاتي»، ومهما اختلف القصد والمعنى الكامن وراء هذا الإجراء، فلا يمكن وصفه بأنه قرار متعجّل أو بلا معنى، ونحن نتذكر أن الألمان والإيطاليين عاشوا لقرون طويلة في دول ومدن متعددة ومستقلة ومزدهرة، ولم تتّحد إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما زالوا يحتفظون بحكمهم الذاتي على أقاليمهم كلها، وهذا ما ساعد على الاستفادة من التنوع الثقافي والحفاظ على العادات والتقاليد الموروثة مع استمرار العمل في إطار تحقيق المصلحة العامة، وعلى المرء ألا يخلط بين مفهومي الأمة والدولة، حيث تمثل الأمة القلب النابض للشعب، فيما تكون الدولة بمثابة الإطار التقني لتنظيم الحياة المشتركة.