الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

الديمقراطية المتوحّشة

حاول كلود لفورت في كتابه «عناصر نقد البيروقراطية» أن يجعل من مصطلح «الديمقراطية المتوحشة» فكرة لفوضى خلاقة للديمقراطية نفسها، فاعتبر أحداث الغليان الاجتماعي في فرنسا في شهر مايو 1968 صورة لهذه الديمقراطية المتوحشة، التي استمرت طويلاً وأصبحت مجالاً موسعاً لطموحات خاصة وَسَمت العالم الحديث، لكنها لم تستمر معانيها وفشلت.

لم تعد تهدف التجمعات والإضرابات عملياً ونظرياً إلى الثورة بمعناها الجذري، وإنما تسعى إلى البحث عن مناسبة للجمع بين الكلام والفعل الاستعراضي لتقوية عمليات التوزيع التراتبي للمواقع والأدوار.

تتردد هذه الفكرة كثيراً في كتابه بحثاً عن أسس التجربة «التوليتارية» أو الشمولية وإرادتها في التفكيك الاجتماعي، الذي يجعل من الإنسانية خليطاً من الأجساد والآلات تتخلله الفوضى وإرادة التطويع، وبدعاء ديمقراطي في سياق مدجن بهدف الاستهلاك.


تشير «الديمقراطية المتوحشة» إلى أنها ذلك الاجتماع الإنساني المتحرر الذي ولد من عواصف «التوليتارية»، وتُقدم نفسها ضد كل التعسفات التي ترمي إلى القضاء على كل ما هو جوهري في الإنسان، إنها بتعبير «حنة أرندت» طموح إلى العالم المشترك الذي تسود فيه معاني الكلية الخاصة بالإنسان عقلاً وطبيعة.


استلهاماً من مكيافيلي، يفترض لفورت أن كل مدينة منقسمة أصلاً، يحدث فيها ضجيج ولغو حول الحريات العامة، يمثل هذا الانقسام الأسياد والشعب عبر قانون يخضع لمنطق ميزان قوى، تكون فيه الكلمة للأقوى، من هنا تُفهم الديمقراطية كنظام من الترددات وعدم اليقين والصراع، والمجتمعات التي تقوم عليها تتغذى، ومن حيث لا تدري بنهايتها المتدرجة وزوالها المحتوم.

في هذا السياق، تربط «الديمقراطية المتوحشة» جسوراً ما بين النظرية والتطبيق، خاصة أن الديمقراطية باعتبارها مؤسسة رمزية أصبحت لا تنفصل عن اعتبارات المجتمع، لكن كل اعتبار للحقوق المكتسبة من صراع سابق على أنها نهائية ودائمة، فذلك يفقدها تراكمها ورصيدها بالمرة وتصبح بلا معنى.

يرى لفورت أن القانون ليس وسيلة للهيمنة الاجتماعية فقط، ولكنه أداة للصراع السياسي كما يشهد على ذلك تاريخ الحركة العمالية لما تم فرض قانون الإضراب، فيعتبر أي قانون ينحاز إلى الفعل السياسي للحركات الاجتماعية المعاصرة التي تتحدث لغة قانونية صرفه، مثل «أرضية المواطنة» لدعم اللاجئين في بروكسيل أو الحق في السكن والتظاهر من جل الحق في الإجهاض، جزءاً من تعبيرات الديمقراطية المتوحشة.

وضداً لكل الانتقادات التي ترى في هذه القوانين سبباً لظهور الدعوات إلى الفردانيات المُغالية، يرى لفورت، داعماً للحقوق الفردية، أن هذه الحقوق هي في الأصل تمثيل لحقوق جماعية يعبر عنها بالمفرد، وأنه ينبغي استخلاص الدروس من انبثاق تعابير المُبعدين والمهجرين والمسحوقين الذين يرسمون مستقبل الديمقراطية بنظرة حقوقية، يكون فيها الجسد المتمرد الفوضوي أساس تماسك المجتمع واستقراره.

بهذا المعنى تعتبر «الديمقراطية المتوحشة» مجالاً حاضنا لكل أشكال الإبداع الإنساني للاحتجاجات المشروعة ضد مختلف أشكال التوليتارية المكشوفة والمقنعة.