الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

تركيا.. إمبراطورية من أوهام

تأكدت تركيا أن الاتحاد الأوروبي لن يسمح لها بالانضمام إليه بكامل العضوية، لأنه لم يكن ينظر إليها سوى كثكنة عسكرية متقدمة لحلف الشمال الأطلسي ضد أطماع الاتحاد السوفيتي المنهار، ولذلك استدارت نحو محيطها الإقليمي، يحذوها الأمل في تبوُء مقعد الريادة عبر استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية بصيغة جديدة تلائم ظروف العصر الراهن، وذلك من خلال نظرية العمق الاستراتيجي التي بلورها وزير خارجيتها الأسبق أحمد داوود أوغلو.

بدأت إرهاصات الاستدارة في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال، ومع صعود حزب العدالة والتنمية المتأسلم إلى السلطة سنة 2002، باتت سياسة رسمية، وغاية استراتيجية قوامها السعي إلى تصفير المشكلات مع الدول المجاورة، والبحث عن تطوير العلاقات معها على أساس تبادل المصالح والمنافع، وخاصة مع الدول العربية، وبالفعل تمكَّنت تركيا من إحداث نقلة نوعية في علاقاتها العربية توجتها بإبرام العديد من اتفاقات التبادل الحر، وتأسيس ما سُمِّي بالحوار الاستراتيجي مع دول مجلس التعاون الخليجي.

بدا للوهلة الأولى أن هذا التوجه جدي واستراتيجي لدى تركيا، ويبحث فعلاً عن علاقات قوامها المنفعة المتبادلة، ولكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته سقط القناع الذي يخفي الأطماع الحقيقية للنظام التركي، تلك الأطماع التي تجسدت بوضوح فيما قاله وزير الخارجية آنذاك أمام البرلمان: «إن شرقاً أوسطاً جديداً يتشكل الآن، تركيا ستقود وتوجه وتخدم موجة التغيير فيه»، وانعكست ميدانياً عبر دعم تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مسمياتها وأنواعها، رغم أن تلك التيارات لم تكن لها أيّ يد في اندلاع الأحداث، وإنما عرفت كيف تركبها لتصل إلى السلطة أو لتشارك فيها حسب الظروف والحالات.

ومع تطور الأحداث على الساحة الإقليمية، وتفاعلها داخلياً وخارجياً ستنكشف تدريجياً انتهازية نظام حزب العدالة والتنمية التركي، وسيتضح حجم استغلال قيادته لمبادئ الدين، وحجم ازدرائها للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية عندما يتعلق الأمر بالصعيد الداخلي بالتشبث بالسلطة والاستئثار بمغانمها، وعندما تكون المصالح الضيقة، وأطماع الهيمنة هي محرك السياسة الخارجية.

داخليّاً، عمد النظام التركي إلى تعزيز سلطاته الرئاسية التي باتت تعطيه لقب سلطان عثماني جديد ينقصه التاج فقط، وذلك عبر إجراء تعديل دستوري مهَّد له من خلال التنكر لعدد من رفاق دربه السياسي، والإمعان في التنكيل بالمعارضة، ومواصلة طمس التنوع العرقي للبلاد عبر إنكار حقوق الأقليات الاثنية الأخرى في البلاد من أكراد وعرب وشركس، وحقوق الجماعات المذهبية، ولا سيما العلويين، ناهيك عن استمرار التضييق على الصحافة وقمع الأقلام الحرة لدرجة أصبحت معها تركيا تحتل المرتبة 154 عالمياً في مؤشر حرية الصحافة، وباتت توصف بأكبر سجن عالمي للصحفيين.

وخارجيّاً، بسبب نزعة الهيمنة التي طغت على خطاب زعيم حزب العدالة والتنمية، والتي ازدادت بعد الإعلان عن فشل محاولة انقلابية مزعومة سنة 2016، وقيامه بتهميش رفاقه الكبار(عبدالله غول، أحمد داوود أوغلو)، انتهى عهد تصفير المشاكل لتجد أنقرة نفسها في صراعات وتنافر مع كافة دول الجوار، متورطة في نزاعات لا صلة لها بها، غير قادرة لا على حسمها، ولا على المساهمة في تسويتها، كما هي الحال في ليبيا واليمن والصومال، ناهيك عن ورطتها في الصراع السوري، وتخبطها بين محاربة تطلعات الأكراد في شمال شرق سوريا، وتثبيت أقدام الفصائل المتطرفة في الشمال الغربي.

وبديهي أن سياسة مغامرة كهذه ستنعكس سلباً على صورة البلاد في الخارج، وستخلف آثاراً اقتصادية وخيمة كشفت هشاشة الاقتصاد التركي، التي تجلت في الانهيار الكبير لعدد من مؤشرات البورصة، والانخفاض المتواتر لقيمة الليرة التركية، والهروب المتواصل للمستثمرين الأجانب بمن فيهم العرب.

إن العرب لا يُكّنون أيّ عداء لتركيا، فهم يريدونها في دور الداعم والمساند لا في دور الزعيم والقائد، فهل يستوعب ورثة الباب العالي ذلك، أم سيواصلون الهروب إلى الأمام، ومطاردة السراب والأوهام؟