الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

المستقبل.. أزمات لا نهاية لها

تسبّبت الأزمة المالية عام 2008 في انهيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبرى، تمثّلَت في انكماش متزايد للنمو الاقتصادي في العالم، وفي تعميق الفوارق الاجتماعية، واندحار مُدَوٍّ للقيم، وسيادة الفساد، فضلاً عن تراجع العقلانية السياسية، وطغيان الشعوبية كصناعة جديدة لليبيرالية المتوحّشة التي تعاظم توحّشها، واجتهادها في بلورة معنى مختلف للفرد يُطلق عليه «الفرد المنغلق»، المنتصر للرجل الأبيض بخلفية المميَّز المضمر ما بين الجنسين الآري والسّامي.

وأهمّ تعبير عن هذا «الفرد المنغلق» تنامي دعوة العداء للحدود المفتوحة كخيار سياسي يميني مُفبرك، أصبح يُفرض على حكومات الغرب ويوجّهها بعنوان: أنّ المهاجرين يسرقون الوظائف ويُهجّنون «الأصل الصافي» للغرب.

لقد استفحشت ظاهرة فقدان الثقة في السياسة من طرف المجتمعات بالأحزاب السياسية، ما جعل هذه الدّول وحكوماتها في الغرب، وفي طليعتها الدوّل العريقة في الديمقراطية، تخسر مواقعها الانتخابية وتبرز إرادات غريبة عن مجتمعاها تتمثل في التَنصّل من تعاقداتها الدّستورية التي كانت مِدماك حداثتها وتقدّمها.. والعالم ما بعد أزمة 2008 لم يبلغ أيّ تعافٍ اقتصادي وسياسي، لم تصل نسبة نموّه 2%، وهو أضعف معدّل شهده العالم بالمقارنة مع معدّلات التّعافي الاقتصادي الذي عرفه ما بعد الأزمات المالية منذ الحرب العالمية الثّانية.


أمّا التّداعي السياسي فيمثِّله انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وهو تعبير مجتمعي بريطاني عن فقدان الثقة في نظام العولمة كنظام بعيد جداً عن خدمة الأفراد ورفاهيتهم الاجتماعية.


بالتأكيد أن العالم ما بعد وباء كورونا وهو يجر وراءه أعضاله المزمنة من أزمة 2008، سيكون عالماً بأزمات مركّبة، شديدة التّعقيد وغامضة المآل، ومن السّابق لأوانه تقييم نوعية هذا الأزمة وما سيترتّب عنها لاحقاً.

طبعاً يجوز لنا أن نفترض، ولكن بدون الجزم والإتيان بأحكام قاطعة، وبهذا المعنى يمكن لنا أن نحتمل استئناساً بأزمة 2008، ما يلي: نظراً لانهيار المقاولات الصغرى والمتوسطة في العالم، وللاختناق المالي وتَغيُّر النظام التجاري الدولي والمبادلاتي وتفاقم المديونيات، فإنّ التعافي الاقتصادي ما بعد كورونا استناداً إلى 2%، التي كانت ما قبل كورونا، لن يتجاوز حدود 1%.

كما أن (الما بعد سياسياً)، سيؤشّر على نهاية العولمة المالية، ولكنّها ستبقى رقمياً قويّة، غير أن النموذج الغربي سيتراجع لمصلحة النموذج الآسيوي، وستقتسم الصين مع الغرب حركيَّة التدفّق المالي بالتدريج في أفق انتصارها على الدولار.

كمّا ستترسّخ فكرة «الفرد المنغلق» بكبح عولمة البشر والتراجع الخفيّ عن كثير من قضايا حقوق الإنسان من منظور ضرورات العودة إلى الدولة القوية واحتكارها الفعلي والشامل للعنف.

لكنّ الذي ينبغي التنبيه إليه أنّ المقاربات الاقتصادية والمالية وحدها غير كافية لتحقيق التّعافي الأمثل، وأن الجائحة قد علّمت الأنظمة العاقلة أن أهمّ مقاربة لتمنيع الدّولة والمجتمع، ينبغي أن تقوم على الإنسان، خاصة أن أشرس التحدّيات التي سيشهدها العالم مستقبلاً، ستكون فيروسيَّة وليست اقتصادية.