الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

الصراع بين العلم والسياسة

أين ذهب كل ذلك الضجيج الذي واكب إجراءات التقيّد بالتباعد الاجتماعي؟.. لقد كُتب لمّقتل الرجل الأسود جورج فلويد يوم 25 مايو الماضي في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، أن يُؤدي لحدوث مواجهات عنيفة في جميع أنحاء الولايات المتحدة امتدت حتى المدن الأوروبية وكندا ونيوزيلندا، وكما جرت العادة، فقد نجح دونالد ترامب في إشعال لهب جديد يضاف إلى النار العالمية الملتهبة أصلاً.

ونحن نتابع الآن المشاهد الغريبة لطائرات الهيليكوبتر العسكرية، وهي تجلجل بأصواتها الهادرة فوق رؤوس المتظاهرين في العاصمة واشنطن وليس في مقديشو.

ولا يبدو أن المشاركين في هذه التظاهرات يأبهون أبداً لتعاليم الحفاظ على مسافات التباعد الاجتماعي، لدرجة أننا وجدناهم يضعون الكتف على الكتف، وهم يغنّون بحماس ويصرخون ويتناقشون بعضهم مع بعض، وربما يعبر هذا المشهد عن بعض ما يمكن للسياسة أن تفعله.


وكما قال أرسطو في كتابه «السياسة»: «فإن الكائنات البشرية هي «حيوانات سياسية» تشترك في النشاطات الاجتماعية، وتتفاعل مع بعضها البعض عن طريق الكلام واستخدام المنطق كوسيلة للإقناع والاقتناع، ويمكننا أن نضيف إلى هذا المفهوم بعض الأسس التي تقوم عليها نظرية الفيلسوف الاجتماعي والمؤرخ العربي البارز العلامة عبدالرحمن بن خلدون، والتي تشير إلى أن المجتمع البشري محكوم بالروابط «العصبية»، والتضامن الجماعي، وهذه العصبيات الاجتماعية تتنافس بعضها مع بعض من أجل السيطرة والهيمنة.. هذه هي الطبيعة البشرية، ويبدو الآن وكأن الناس في أمريكا يجتمعون ضد حظر التجول ليجدوا أنفسهم وقد وحدتهم الاحتجاجات.


ولكن يجب الانتباه إلى أنه في الظروف الخاصة المرافقة لانتشار جائحة «كوفيد-19»، فإن هذه الطبيعة المتجذّرة في المجتمع البشري تلعب دوراً معاكساً لما تقتضيه قواعد الحفاظ على الصحة العامة.

ويمكننا أن نستنتج كم من قطرات الرذاذ التي تم رشها من أفواه بعض المتظاهرين، وامتصاصها من طرف الآخرين في هذه الاحتجاجات، ولنتذكر معاً أن عمليات تبادل رذاذ الزفير خلال الحوارات الساخنة، التي كانت تدور بين المتظاهرين ورجال الأمن، هي من بين أكثر الظواهر التي كان يتجنبها الناس في ذروة تعليمات البقاء في المنزل لوقف انتشار «كوفيد-19».

ومن الواضح أن البقاء في البيت والحفاظ على التباعد الاجتماعي هي تعالم يلفّها الغموض للدرجة التي لا تسمح بتنفيذها على النحو السليم، إلا أن الخبراء اليابانيين ابتكروا شعاراً آخر بسيطاً ومفيداً يقضي بتجنب ثلاثة أشياء هي: الأماكن الضيقة ضعيفة التهوية، والأماكن المزدحمة التي يقترب الناس فيها من بعضهم، وجلوس الناس بحيث يكونون قريبين من بعضهم وهم يتبادلون الأحاديث، ويبدو أن هذه التعاليم حققت الفوائد النسبية المرادة منها في الوقت الراهن في اليابان.

وهناك خطوط عدّة للتصادم بين العلم والسياسة، وهذه الصراعات السياسية القائمة التي نشهدها الآن بين المجموعات التي تربط بينها الأسس «العصبية» عززت الآن بسبب الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، التي فرضتها جائحة «كوفيد-19».