الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الموازين الرّمزية للقوة.. المنعطف التاريخي

ما يحدث في شمال أفريقيا من تجاذبات سياسية وحسابات جيو-استراتيجية نفعوية يديرها الغرب، إمّا بطريقة مباشرة أو بوكالة تركية، لا تسير في الاتجاه المُخطّط له كما تطمح إليه أمريكا، نظراً للانعطافة التّاريخية التّي يشهدها العالم وانقلاب الموازين الرّمزية للقوة.

ذلك، ليس لأن الصرّاع في ليبيا حول السّلطة قد أخذ بعداً دولياً، يتراوحُ ما بين المُستتر والظّاهر، تمّ فيه توظيف الأيديولوجيا بمنطق إسلاموي لشرعنة الاستحواذ السياسي، وإنّما لأنّ هناك متغيّراً جديداً يتعلّق بتحوّلات معنى «القوّة» وبروز حقيقة مكمنها ومن يملكها.

من الخطأ الاعتقاد أنّ متاهة الصراع السياسي بالمنطق الفوضوي الذي يجري في ليبيا سيحسم فيها وينتهي عند حدودها، ولا أقصد كما هو مكرر في مجمل التحاليل المتقادمة أن الصّراع سينتقل إلى باقي بلدان المنطقة، انسجاماً مع مخطّط الفوضى الخلاّقة، ومشروع الشرق الأوسط الجديد كما بشّرت به وزيرة الخارجية الأمريكية بين 2005ـ 2009 كونداليزا رايس عام 2006، لأنّ هذا المشروع الذي أعلن انطلاقه بوش الابن عام 2004، والذي قام على قاعدة تمويهية بتأكيده على أن الهدف هو إشاعة الحريّة في المنطقة وترسيخ أسس الديمقراطية فيها، قد كشف عن تناقض مريع للرؤية الأمريكية لذاتها أوّلاً وللعالم ثانياً.


وانجلى هذا التناقض أخيراً في القمع الدّموي ضد المواطنين المتظاهرين المنتصرين للقتيل جورج فلويد، فلم يكن أحد يتوقّع من الدّولة الأمريكية التي نصّبت نفسها راعياً عالمياً للحريات والديمقراطيات أن تصل بها الغطرسة المتوحّشة إلى أبشع طرق الاعتقالات التعسّفية، وتقتيل مواطنيها الذين احتجوا ضدّ العنصرية.


ولم تحمّل الإدارة الأمريكية نفسها في بداية انفجار هذه الاحتجاجات، عناء ممارسة أبسط أبجديات الديمقراطية بفتح حوار منصف مع المحتجّين، بل بادرت بتسرّع سلطوي إلى اعتبار ما قام به الشرطي القاتل جريمة من درجة ثالثة، قبل أن يرضخ الادعاء العام لتكييفها جريمة من الدرجة الثانية نزولاً عند ضغط الشّارع.

إنّ هذا التناقض الأمريكي الحاصل في لحظة حرجة من تاريخ العالم الذي وقّعته جائحة كورونا، قد قلب ميزان القوة الرّمزية الذي كان لصالح أمريكا، وجعل حجّتها في اقتحام سيادات الدّول أمراً غير مقبول لدى المواطن العالمي، لأنها فقدت مصداقيتها بخصوص دفاعها عن الحرّية والديمقراطية.

ولذلك، يبقى استعمال تركيا في ليبيا من طرف الإدارة الأمريكية بحثاً عن تحقيق حلم أصبح متجاوزاً خطأ أمريكا، وسيفتح باب الفوضى المدمّرة للعالم، والتي ستأتي على أمريكا أوّلاً، لأن هوّة تناقضاتها الدّاخلية قد تعمّقت أكثر من أيّ وقت مضى كما استفحل فقدان ثقة المواطن فيها، بحيث أصبح مدخلاً جديداً لللايقين في مستقبل وحدتها، وهذا ما عبرت عنه بعض الولايات وهي تطالب باستقلالها وانفصالها.

إن ما يحدث اليوم، هو انقلاب في الموازين الرمزية للقوى وظهور الولايات المتحدة ضعيفة ليس من ناحية قوتها المادية ومنزلتها أمام الصين، ولكن في اختلال موقعها الرمزي لتمثّلات القوة لدى مواطن العالم، ما سيعجّل بتدحرجها وسقوطها المرتقب.