الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

كورونا.. والنظام الدولي

لم يصل بعد عدد ضحايا جائحة كورونا عبر العالم إلى نفس عدد البشر الذين يموتون سنوياً من الجوع، أو من انتشار الإنفلونزا الموسمية، ومن حوادث السير والاستهلاك المفرط للمخدرات والكحول، ومع ذلك فقد أصابت الجائحة العالم كله بالهلع وفرضت على أزيد من ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية الاحتماء في البيوت، واتخاذ إجراءات وقائية صارمة غير معهودة من ذي قبل.. لماذا؟

أولا: سرعة انتشار عدوى الوباء من مقاطعة صغيرة في الصين الشعبية إلى كافة أنحاء المعمورة؛ وهي سرعة تعزى إلى مجموعة من العوامل أهمها العولمة، وما أفرزته من سهولة في التنقل بين الدول والقارات.

ثانيا: استهانة الدول الكبرى بالوباء في بدايته، وعدم التعامل معه بالجدية المطلوبة، وهي استهانة ناجمة عن اعتقاد ترسخ في الغرب منذ زمن بعيد، مفاده: أن الأوبئة والأمراض المستوطنة لا تصيب سوى الدول النامية والمتخلفة.

ثالثا: العامل الحاسم في هلع كبار قادة العالم، وكبريات مؤسساته المالية، وشركاته العملاقة العابرة للقارات، إنه يتمثل في حصيلة أولية ثقيلة للغاية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً لانعكاسات انتشار جائحة كورونا عبر العالم بأسره.

وإذا كان من المبكر حصر القيمة النهائية للخسائر على اعتبار أن التدابير الاحترازية لمواجهة الجائحة لا تزال مستمرة، وأن الاقتصادات العالمية المختلفة لم تستعد بعد نشاطها المعتاد، إلا أن تلك الخسائر تتجلى بوضوح في كساد شبه كامل لقطاعات النقل بكل أنواعه، وفي تراجع السياحة الداخلية والخارجية، وانكماش التجارة الدولية، ناهيك عن توقف تدفق الاستثمارات الأجنبية وإحجام الاستثمارات المحلية عن المغامرة، وشلل العديد من البورصات العالمية.

لقد تضرر الجميع ــ ولو بدرجات متفاوتة ــ من الانعكاسات السلبية للجائحة، وكان منتظراً أن تكون ردود الفعل إزاء تلك الأضرار، وأساليب الحد من عواقبها الوخيمة، ذات طابع جماعي من خلال منظمات دولية أو إقليمية سياسية كانت أم متخصصة.

غير أن ذلك لم يحصل، فالأمم المتحدة وهي أكبر محفل عالمي، اقتصر دورها على تسجيل مواقف ومناشدات من خلال تصريحات لأمينها العام، الذي حذّر من أن عدم المبادرة لاتخاذ ما يلزم سيجعل الجائحة تُحدث من المعاناة والدمار ما لا يمكن تصوره، داعياً الدول إلى النهوض بالعمل موحدة ومتضامنة، مُشدِداً على أن يكون لقاح كورونا متاحاً للجميع؛ فيما اكتفت منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة المختصة، بلعب دور كاتب ضبط يسجل أرقام تفشي الجائحة وأعداد المصابين بها، المتعافين منهم والذين لقوا حتفهم كما تردها من الدول نفسها، ولا يمكن بأي حال أن تشفع لتقاعسها بعض المساعدات التي أمنتها لبعض الدول الفقيرة، وهي مساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع.

أما المنظمات الإقليمية فقد غاب معظمها تماماً عن الساحة، إذ لم يسمع عن أيّ دور مهما كان صغيراً لكل من جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي ومنظمة الدول الأمريكية؛ بل إن الاتحاد الأوروبي نفسه ـ وهو التنظيم الأكثر اندماجاً ـ وقف عاجزاً في بداية الأمر، وتأخر كثيراً في التجاوب مع حاجيات بعض أعضائه؛ ما عرضه لانتقادات حادة سيما في أوساط الشعوب التي تضررت كثيراً مثل: إيطاليا وإسبانيا، وهي انتقادات غذَّت خطاب الانفصال عن الاتحاد الذي ترفعه أوساط يمينية متطرفة، تدعو دولها إلى حذو موقف بريطانيا.

في مقابل هذا الغياب للعمل الجماعي، برزت السياسات والاستراتيجيات الوطنية الخاصة بكل دولة على حدة، رغم أن بعض الدول استهانت بالوباء في بدايته؛ ولكن معظمها استدرك الأمر، خاصة بعد أن استشعر عدد من الزعماء خطورة استفحال الجائحة على مستقبلهم السياسي.

لقد كشفت كورونا أن الفجوة واسعة للغاية بين واقع المنظمات الدولية والإقليمية وبين الآمال والتوقعات المنتظرة منها، وبذلك تكون قد أثبتت في بضعة أسابيع ما عجز العديد من فقهاء القانون الدولي عن إثباته في سنوات، وهو أن مصطلحات كالجماعة الدولية La Communauté Internationale والعمل الجماعي العالمي مجرد هياكل فارغة، وأن أطروحات التعاون والتضامن الدولي ليست سوى شعارات للمزايدة.

هذا لا ينفي وجود استثناءات معظمها تمت في إطار العلاقات الثنائية بين البلدان، استثناءات أتت لتؤكد عودة مفهوم الدولة / الأمة L’Etat Nation بقوة إلى الواجهة الدولية، ومن المرجح أن تتبعه سياسات الحمائية الاقتصادية الداخلية، وتوقف سياسة الاعتماد على سلاسل التوريد الدولية التي فرضتها العولمة.

كل هذه المعطيات تشير إلى أن النظام الدولي بوجهيه العالمي والإقليمي مطالب بإعادة النظر في مؤسساته المختلفة، التي تحمل في داخلها عوامل وحوافز نجاحها، ولكنها تحبل أيضاً بالكثير من العوائق والمطبات التي تكبح جماح طموحاتها.

إن النظام الدولي بعد كورونا سيكون في مفترق طرق، وأمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يصحح أخطاءه ويؤمن استمراره، وإما أن يعلن إفلاسه.