الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

مزاج العصر.. وعشق الضحية

هل يمكن لنا أن نعتبر جورج فلويد بطلاً، سواء بالمعنى القومي الأمريكي أو حتى بالمعنى الإنساني؟ بالتأكيد لا، ليس فقط لأن لديه سجلاً إجرامياً، ولكن لأنه لم يقم بأي شيء يدل على بطولة ما، هو ضحية وليس بطلاً، والواضح أمامنا أن مزاج العصر يميل إلى عشق الضحية، ويكره البطولة ويمقت الأبطال، وكلما كانت الضحية شديدة البؤس والهوان ازداد التعلق بها!

تأمل حالة «بوعزيزي» في تونس الخضراء، رجل فقير وبائس يقف في الشارع بعربة من دون تصريح قانوني، وكان أن أشعل النار في نفسه، وراج أن شرطية صفعته على وجهه.. امرأة تصفع رجلاً في مجتمع عربي!

في المزاج العادي، كان ممكناً عدم التعاطف مع بوعزيزي، شاب هش وانتحر، وهو فعل مُدان اجتماعياً، وقد يعد كفراً، لكن المزاج العام كان يريد ضحية، والأمر نفسه يمكن أن ينطبق على خالد سعيد في الإسكندرية.


إن المزاج العام يريد تحطيم أبطال التاريخ ويرفض ظهور أبطال جدد، فتأمل تعامل بعضنا مع صلاح الدين الأيوبي ولعن عبدالناصر صباحاً ومساء حتى في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، الظاهرة ليست عربية فقط، بل حدث ذلك في روسيا مع لينين، وشاهدت قبل عدة سنوات شيئاً مشابهاً في العاصمة الصينية بالنسبة لـ«شواين لاي» وماو، وفي الأسبوع الماضي وجدنا ما تعرض له تشرشل في لندن ومحاولة تحطيم تمثاله!


في القرن الـ19 ومعظم الـ20 كان المزاج العام يمتدح البطولة ويبحث عن الأبطال، تعامل تولستوي وتوماس كارليل مع تاريخ النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، يثبت ذلك، أما الآن فالتعامل معكوس، فنحن في زمن لا يريد أنبياء ولا أبطالاً، أسماء مثل غاندي وسعد زغلول والأمير عبدالقادر وعمر المختار ليست مطلوبة الآن، بل مطلوب هدمهم جميعاً وشطبهم من التاريخ! مع استبدالهم بضحايا، مساكين وبؤساء.

إن المكايدات والانتهازية السياسية تعلب أدواراً كبرى في ذلك، حيث نلاحظ أن مأساة السود في الولايات المتحدة تحولت إلى بند في المعركة الانتخابية الرئاسية المقبلة.

ولا ننسى وجود بعض الأفكار في مجتمعاتنا، مع أيديولوجية خاصة لبعض التيارات، تؤسس لوجودها وأحقيتها في السيطرة على المنطقة العربية كلها، انطلاقاً من المظلومية والنحيب الذي لا ينقطع عن «المحنة» أو المحن التي تعرضوا لها.

إن كل هؤلاء يلتقون معاً في البحث عن ضحية، بين حين وآخر، مع تدمير منهجي للأبطال وللبطولة ذاتها، بما يعني تجريف الذاكرة والوعي التاريخي.

وإن الضحايا لا يصنعون التاريخ ولا يبنون الأوطان ولا يقيمون دولاً.. هم يهدمون فقط!