الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

المقايَضة من أجل الكرامة

يُمكن اعتبار الكرامة جِماعَ الحقوق اللصيقة بالإنسان من حيث هو إنسان، وقد ظهرت الكرامة الإنسانية بالمفهوم الشامل في القرآن الكريم لأول مرة في التاريخ البشري، وإن كان العرب في الجاهلية عرفوها بدلالات ومعانٍ مختلفة، وكانوا يعتزُّون بكرامتهم وشرفهم وإبائهم، ولا يرضون بالذل والهوان. قال شاعرهم عنترة بن شداد: لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ.. بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ.. لكن في الأزمنة السابقة للإسلام لم يكن الحديث عن حقوق أو قيَم عامة مرتبطة بالإنسان كإنسان ممكناً، وإنما كانت القبيلة أو المجتمع أو المدينة أو حتى الإنسان نفسُه هو الذي يُقرِّر القيَم والحقوق، التي يجب أن يُعامَل بها ويُنظر إليه من خلالها.

فالإنسان دائماً تُحدّده قبيلته أو مجتمعه أو لغته أو يُحدّد هو نفسه بأنه «البابلي» أو «المصري» أو «اليوناني» أو «الروماني» أو «العربي»، إلخ، أمّا الإنسان بمفهومه الشامل للجنس البشري، فلا نجده إلا في القرآن، أو في العصر الحديث في ميثاق الأمم المتحدة أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو في كتابات أوروبية قليلة ظهرت مع الكاتب الإيطالي جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا، والفيلسوف الألماني إيمانويل كانت.

فإيمانويل كانْت أوضح أن كرامة الإنسان تُولد معه وأنها غاية لذاتها لا وسيلة لغيرها، لكن كتابات «ميراندولا» و«كانت» لم تكن نصوصاً قانونية ملزمة، أما الحقيقة فهي أن القرآن الكريم قبل 14 قرناً جعل كرامة الإنسان من حيث هو إنسان فوق كل اعتبار (ولقَد كرَّمنا بَني آدم وَحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وَفَضَّلناهم عَلى كَثِير ممن خلقنا تَفضيلاً) (سورة الإسراء ـ الآية: 70).


وهذا التكريمُ شاملٌ جميع البَشَر، لأن الآية استخدمت عبارة «بني آدم» التي تعني كل البشر، بغض النظر عن أعراقهم وألوانهم وأديانهم، ثم بعد ذلك يتفاوتون في التُّقى والعمل الصالح لقوله تعالى: (يا أيُّها الناس إنا خلقنَكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ اللَّه عليم خبير)، (سورة الحجرات ـ الآية: 13).


فالكرامة إذن هي أهم ما يتمسك به الإنسان، لأنه بدونها لا تكتمل إنسانيته، لذلك، لا عجب أن نجد الشعب اللبناني الأبي عندما انهار سعر الليرة وغَلَت أسعار السلع الأساسية وأصبحت الحياة لا تُطاق، بسبب الفساد المتراكم، يتخذ من الكرامة حِصناً منيعاً يَلجأ إليه وشعاراً لحياته في هذه المحنة التي تواجهه «لبنان يقايِض» من أجل الكرامة.