الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

«آيا صوفيا».. والعثمانية الجديدة

على المتحمسين لقرار المحكمة التركية بإعادة كنيسة آيا صوفيا مسجداً من جديد، فهْم أن مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة حيّد الموقع عن الحرب الدينية القديمة، وحوّله في عام 1934 إلى متحف لا يقدم أي خدمات دينية، ومع الوقت اعتمدت اليونسكو الموقع قطعة معمارية ورمزية ثقافية تعبر عن الانسجام والتعايش التاريخي والإنساني في تركيا والثقافات المجاورة الأخرى.

يأتي الجدل الذي خلَّفه قرار رفع الأذان وإقامة الصلوات في المقر التاريخي الأهم والأقدم للمسيحيين الأرثوذكس، منسجماً مع الجدل الذي تثيره تركيا ـ أردوغان، بتدخلاتها المباشرة في الأراضي السورية والليبية واحتضانها الكامل للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والتوجه الأردوغاني هو جزء من عقلية (الفتح) التي تأسست عليها الإمبراطورية العثمانية وعزلت العرب عن التاريخ والحضارة لما يزيد على ستة قرون.

وبعيداً عن الجدل السياسي والثقافي حول تحولات موقع آيا صوفيا، فإن مفهوم الغزو أو الفتح هو مفهوم ساد القرون القديمة والوسطى، وهو يعبر عن ارتباط عمليات الاحتلال العسكري بطمس الهويات السابقة وإحلال هوية الغزاة أو الفاتحين مكانها، وهو سلوك تجاوزته الحضارة الإنسانية بالسعي لنشر ثقافة التعايش وقبول الآخر وتفهم التنوع العرقي والثقافي.


وتلك مسألة لم تتجاوزها بعد منطقة الشرق الأوسط التي تعد مهد الديانات القديمة ومهبط الديانات السماوية، وما زالت أرضية لصراع السرديات المقدسة بما تحويه من مواقع أثرية، إذ لا نستطيع تجاهل دور هذه المسألة في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على موقع المسجد الأقصى، وإبقاء منطقتنا العربية في إطار هذه المفاهيم (القرن أوسطية) يبقينا خارج التاريخ مرة أخرى كما فعلت بنا الإمبراطورية العثمانية.


يردد أنصار العثمانية الجديدة أن قضية آيا صوفيا هي شأن تركي سيادي داخلي، وهذا غير صحيح، إذ إن (الرمزيات الثقافية العالمية) ذات حساسية إنسانية تمكنها من عبور موقع الصراع الجغرافي والتأثير على البيئات المجاورة، وهذا ما يهدف إليه السيد أردوغان من إعادة تهييج مشاعر المسيحيين والمسلمين في أوروبا والعالم العربي للعودة إلى مربع الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية، أي العودة إلى منطق القرون الوسطى، انطلاقاً من القرن الـ21.

قد يبدو النكوص الحضاري التركي غريباً، ولكن إذا تذكرنا إغلاق الاتحاد الأوروبي بواباته أمام انضمام تركيا لعضويته وتعاظم الطموح الأردوغاني، فسنتفهم التوجه الأيديولوجي التركي في المنطقة الذي لم يجد شيئاً غير التاريخ والسرديات والصراعات يستثمرها في المنطقة بمؤازرة جماعات ترى نفسها يتيمة الإمبراطورية العثمانية، التي لم يسجل التاريخ لها إسهامات حضارية سوى الغزوات والمجازر والإبادات.