الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

الحقول الإيديولوجية.. والفئران البشرية

تمثل الفئران حقل التجارب النموذجي في علوم الطب، وتمثل الصحارى الكبرى وأعماق المحيطات حقول التجارب الأنسب في اختبارات الأسلحة النووية، لكن تطور الجانب الشرير من السياسة الدولية جعل من الدول والشعوب حقول تجارب فكريّة.. حيث يجري اختبار الأيديولوجيا فيها وبحث نتائج ذلك من أجل تعديل التجارب أو إعادتها.

تبدو الشعوب في حقول التجارب الأيديولوجية أشبه بفئران في معامل، هذا المعمل مخصص للتجارب الدينية، وهذا مخصص للتجارب الديمقراطية، وذاك مخصص للتجارب العرقية.

لقد كان غزو العراق عام 2003، نموذجاً صارخاً لأعمال هذه النظرية «حقل التجارب الأيديولوجي»، حيث تحدث المحافظون الجدد عن إجراء تجربة للديمقراطية، بعد إسقاط الدولة وحلّ الجيش وإعدام قادة النظام.


ولما رأى خبراء المعمل الأيديولوجي أن النتائج ليست كما وعدوا في بداية التجربة، قاموا بتجربة أخرى، وهي: المواجهة المذهبية بين السنة والشيعة يقودها متطرفو الجانبين من أجل التمهيد لدولة حداثية ناجحة، ولمّا فشلت تلك التجربة هى الأخرى، جرى تجهيز المعمل لفكرة التقسيم، ابتداء بالتحول نحو الفيدرالية وانتهاء بالتحول إلى أكثر من دولة، ولمّا كان ذلك يحتاج لوقت أطول للتجربة، جرى إنجاح تجربة تم الإعداد لها جيداً، وهي الحكم الديني في العراق، حيث جاءت جماعات وتنظيمات من غياهب الماضي إلى قلب البرلمان والحكومة وإلى إدارة النفط والدمّ.


وهكذا انتهى حقل التجارب الأيديولوجي في العراق إلى تراكم نتائج العديد من المختبرات، التي شكلّت في مشهدها الجامع دولة ضعيفة، ومجتمعاً ممزقاً، وعمائم تتصارع باسم الدين من أجل الدنيا.

لقد قام الباحثون في المختبرات الأيديولوجية العراقية بتنحية النخبة المثقفة، والخبرات الرفيعة، والحداثيين المتميزين من أصحاب الرؤى، وجرى دفعهم خارج المعامل، حتى لا يكونوا جزءاً من نتائج المشهد ولا مستقبل الحاضر.

وتمثل ليبيا اليوم حقل تجارب أيديولوجياً كبيراً، تعمل بعض المختبرات من أجل إعادة «القذافيّة» في ثوب جديد، وتعمل مختبرات أخرى على إعادة تجربة «الترابي ـ البشير» السودانية في شكل مغاير، وتحاول مختبرات ثالثة إنشاء أفغانستان جديدة، بينما تحاول أخرى إنشاء خلافة داعشية أفريقية بعد قرار إنهاء الخلافة الداعشية الآسيوية.

في ليبيا قام القذافي بإنشاء أكبر حقل تجارب أيديولوجي عبْر كتابه الأخضر وتقلبّاته المزاجية المذهلة، وبعده قامت جماعات الإسلام السياسي التي أسّسها السيناتور الأمريكي الشهير جون ماكين قائلاً: «إنهم أبطالي.. هم أبطال الحريّة الذين يجب دعمهم» بجعْل بلادهم قبلة التجارب الأيديولوجية في العالم العربي والإسلامي.

في كل مغامرة أيديولوجية، وفي كل موجة من المرتزقة الفكريين، يزداد الموقف تعقيداً، حيث تبقى آثار التجارب السابقة إلى جوار نتائج التجارب التالية، لا شيء ينتهي أو يتلاشى، وبعد قليل من التجارب يصبح الوطن غارقاً في كمٍّ هائل من المخلفات الأيديولوجية والنفايات الفكرية.

إن هذه النفايات هي الخطر الأكبر الذي يهدد حياتنا، ولا مستقبل لنا سوى بإزالتها، وإن أعظم ما يجب أن نعمل لأجله هو إزالة تلك القمامة الأيديولوجية، وشق الطريق إلى المستقبل.