الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

مالي.. و«الفقدان الكاريزماتي»

جاء انقلاب مالي نتيجة مسار متدرّج من الانفلاتات الأمنية والتناقضات السياسية، التي عبّرت عن فشل منظومة الحوكمة السياسية وغياب قيادات لها القدرة على التأثير وإيجاد فضاء صحي لحوار مدني، يمهّد لسلم شامل أساسه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ولعل التوالي المفرط للانقلابات التي تراكمت في مالي منذ 1991 و2012 إلى 2020، تؤكد على فرضية أنثروبولوجية مفادها: أن فقدان الكاريزما السياسية المرتبطة بقيادة الدولة خاصة في الدول التقليدية، يكون سبباً مباشراً في اختلال منظومة الحكم، وتوالد الأطماع من داخل النخبة الحاكمة للسيطرة على الدولة، بل إن «الفقدان الكاريزماتي» بتعبير الأنثروبولوجي «كيلفورد غيرتز» يُحدث شوقاً اجتماعياً مرضياً إلى «السيد»، الذي يرى فيه المجتمع رمزاً للوحدة وجديراً بالطاعة.

تلك هي حالة كثير من البلدان العربية التي أصابها التحلل إما بموت رؤسائها «الكاريزميين»، أو بالانقلاب عليهم من طرف قوى خارجية كالاستعمار.

حقاً يصدق هذا الافتراض على واقعة الانقلاب في مالي الذي يعبر عن بحث الماليين عن زعيم يشبه نموذج القائد القابع في خيالهم السياسي والرمزي، كما يرصد أسباب استمرار الفوضى وعدم استقرار النظام السياسي.

بالرجوع إلى انقلاب 1991، نلاحظ أن انقلاب حامدو توماني توري على الحاكم موسى تراوري، الذي حاول أن يؤسس لهذه الكاريزما بتسليمه الحكم للسلطات المدنية في السنة الموالية، انتظر 10 سنوات بعدما تقاعد من الجيش ليعتلي كرسي الرئاسة كسياسي فائز ديمقراطياً في الانتخابات الرئاسية سنة 2002، وليس كانقلابي بحثاً عن ترسيخ صورة القائد اجتماعياً وسياسياً.

وبالرغم من محاولته تحقيق توافق سياسي بينه وبين الأحزاب السياسية في تشكيل الحكومات مع تقديم تنازلات تكتيكية، فإن صورته في المجتمع قد تأذت كثيراً ليس بسبب التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن بسبب تخلّيه عن دور القائد «الأب»، كما هو ماثل في أفق انتظار الماليين، لمّا عجز عن صدّ تمرد الطوارق في شمال البلاد الذين تسببوا في إزهاق أرواح العشرات من المدنيين، وتهجير أزيد من 200 ألف من السكان، لذلك لم يحظَ الرئيس حامدو بدعم شعبي واسع لمّا انقلب عليه الجيش، بالرغم من بعض الاحتجاجات الداعمة له من طرف الأحزاب المشاركة في الحكم.

أما عن خلفية الانقلاب ضد الرئيس إبراهيم كيتا، فهي ناتجة عن تكرار الصورة النمطية نفسها لرئيس يفتقر إلى كاريزما القيادة وخضوعه لسيطرة نخبة حاكمة عسكرية وتجارية فاسدة، أبعدته عن المجتمع وأفقدته أي قاعدة شعبية للدفاع عنه، بل إن هذه القاعدة قد ساندت الانقلاب وعبرت عن سخطها ضد رئيس لم يتجاوب بالمطلق مع همومها وانتظاراتها الحياتية.

إن سبب الانقلابَين، بالرغم من التفسير القاضي بحدوثهما بتدبير خارجي، يعود إلى غياب كاريزما زعامة سياسية جامعة قادرة على الوحدة، وتبديد استياء الشعب من أسلوب الحكم، والنهوض بالاقتصاد، ومحاربة الفساد، وإرجاع الثقة في المؤسسات.