الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

العار في موت المضمون وحياة الشعار

ارتكب العرب خطيئة كبرى على مر تاريخهم الحديث ومازالوا مصممين على هذه الخطيئة، التي أدت بهم إلى الجمود والسكون في عالم لا يسكن قط، وأعني هنا خطيئة التعامل مع السياسة كالتعامل مع الدين واختلاق مقدسات وثوابت لا تمس ولا يجوز الاقتراب منها، حتى بلغنا مرحلة ما يمكن تسميته المعلوم من السياسة بالضرورة!

وانطلقت الشعارات حول هذه الثوابت المغلوطة فصارت مسلمات وبديهيات تحرم مناقشتها أو إعادة النظر فيها، وأدخل العرب إلى السياسة ما ليس منها فهي لا تعرف الثوابت والمسلمات والبديهيات، وبذلك العته ضاعت الفرص وضاع الوقت وجاء كل شيء بعد فوات الأوان، وما رفضناه بإرادتنا يوما قبلناه رغما عنا في قابل الأيام.

وتوقف النمو الفكري العربي عند مرحلة المراهقة السياسية، وقد حشونا الرأي العام تِبنا وقشا، فراحت الجماهير تردد وتلوك هذه الثوابت البلهاء، ولجأت الدول والحكومات إلى ما يمكن أن أسميه منافقة الشعوب والجماهير، وقاد القطيع الراعي، حتى عندما أدركت الدول خطيئة الثوابت والمسلمات في السياسة جبنت عن إعادة النظر فيها علنا وراحت تحطمها سرا، بينما تردد علينا مع الجماهير نفس الشعارات والثوابت والمسلمات فوقعت في رذيلة الازدواجية والكيل بمكيالين والنفاق، فلم ترض الجماهير ولم تمارس السياسة بوجهها الصحيح.


فكانت الدول والحكومات مثل جحا الذي أراد أن يصرف الأطفال عنه، فقال لهم أن هناك وليمة كبرى في آخر القرية فاندفع الأطفال بل وأهل القرية كلهم نحو الوليمة وهنا وجد جحا نفسه وحيدا فقال: مؤكد أن هناك وليمة كبرى فاندفع يجري نحو آخر البلد.


وهكذا فعل العرب طويلا... كذبوا وتحروا الكذب ثم صدقوا أنفسهم حتى بعدما أدركوا أنهم كاذبون لجؤوا إلى نفاق الشعوب بأن يفعلوا في السر ما يرفضونه في العلن.

لقد أهلكت المسلمات والبديهيات والمعلوم من السياسة بالضرورة أمة العرب، لقد ثبّتوا كل شيء حتى ثبت لهم بعد الفوات أنه لا ثوابت في السياسة، فعدوهم ثابت وصديقهم ثابت وقضيتهم الأولى ثابتة، والسلام الدائم والشامل والعادل الذي لا وجود له إلا في الجنة ثابت لدى العرب، واللاءات ثابتة.

تركنا للعالم كله الفعل واكتفينا بالقول، تركنا للعالم المضمون واكتفينا بالشعار، وظلت شعاراتنا معلقة في الفضاء ولم نرها يوما على الأرض.. ومنتهى العار أن يموت المضمون ويعيش الشعار.