الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

قائد.. رحل من نصف قرن

الأمم جميعها تتقدم وترتقي مدفوعة بطاقات خلّاقة تستمدها من النماذج الرائدة في تاريخها، تلك النماذج الشخصية والجماعية التي تمثل محفزاً قيمياً، وقدوة سلوكيةً، وحالة لتجلي روح الأمة يتمنى كل إنسان فيها أن يعيشها أو ينتسب إليها أو يكررها، جميع الأمم على مرّ تاريخ البشرية محكومة بهذا القانون الاجتماعي، الذي يربط مستقبلها بمقدار صناعة الحلم المستمد من أنصع نقاط تاريخها، الذي صنعته نماذجها الناجحة، وتجاربها الرائدة وقياداتها الملهمة.

سيظل الأمريكان يتطلعون إلى نموذج الآباء المؤسسين، والقيادات الفذة مثل: جورج واشنطن، وإبراهام لنكولن، وجون كيندي، وسيظل الفرنسيون يفاخرون العالم بثورتهم وبرواد عصر الأنوار من الفلاسفة والكتاب والشعراء، وسيظل الأفارقة الأمريكان يحلمون مع مارتن لوثر كينغ، والهنود ذاكرتهم مفعمة برمزية الماهاتما غاندي.

جميع هذه الشعوب تحافظ على نماذجها الفردية والجماعية، تركز على نجاحاتها وفضائلها، وتغض الطرف عن نواقصها وسلبياتها، تقدم للأجيال التالية أنصع ما في تاريخ هذه النماذج، وتتجاهل كل السلبيات والنواقص، بل تخفيها تماماً، لأنها تعرف أنه لا تربية ولا تعليم بدون قدوة، ولا تقدم بدون نماذج ناجحة، تمثل القدوة التي يطمح كل جيل إلى تكرارها، وإعادة إنتاجها، لأن الأمم الناجحة السائرة على طريق التاريخ الذاهب إلى المستقبل تدرك أن دورها هو توظيف نجاحات نماذجها التاريخية في صناعة المستقبل، وليس محاكمة تلك النماذج وتشويهها.


هذه الأمم السائرة على طريق التاريخ الذاهب نحو المستقبل، تدرك أن محاكمة الماضي لا قيمة لها، إلا إذا كانت تسهم إيجابياً في صناعة المستقبل، أما المحاكمة المتألهة التي تتقمص دور الخالق يوم القيامة، والتي تريد أن تدين فلاناً، أو تنصف فلاناً، فلا موضع لها، حيث يكون نقد السلبيات عديم القيمة إلا في البحث العلمي التاريخي المتخصص، لأن المحافظة على نقاء النموذج وعدم تشويهه أو تدميره أو إلحاق صورة سلبية به هو الأساس في ترسيخ الهوية الوطنية، ومعها ترسيخ منظومة القيم الإيجابية الدافعة للتقدم والازدهار.


أما الأمم السائرة على طريق التاريخ الراجع إلى الخلف، فلا تدرك هذه الحكمة، وتقوم وبدرجة فائقة من الحماقة والبلاهة بتدمير نماذجها وتشويهها، حتى إنها تصل إلى درجة من العدمية تفتقد معها وجود أي علامة مضيئة في تاريخها.

ضمن هذا الوعي الجمعي العميق تحتفي المجتمعات برموزها التاريخية، وتعيد التذكير بإيجابياتها وإنجازاتها، وفي هذا السياق يأتي الاهتمام العربي بمرور 50 سنة على رحيل الرئيس المصري جمال عبدالناصر، رحمة الله عليه.