عندما تضعف الأمم يكون أول أسباب ضعفها تراجع مكانة العقل ودوره فيها، وتعاظم أدوار اللسان وانتشار الضوضاء الصوتية التي تحدثها كلمات فارغة من المعاني، ومن ثم يتجادل الناس حول مباني الكلمات وليس معانيها، ويتصارعون حول اللامعنى، ويتقاتلون على ألفاظ لا حقيقة لها في الواقع، لأن هناك حالة انفصام بين اللفظ والمعنى، بحيث تكون هناك دلالات ومعانٍ متناقضة، ومختلفة لكل لفظ، وكل إنسان يستخدمها حسبما يريد، في هذه الحالة تسود حروب الكلمات، وتُصنع الحقائق بالكلمات، ويتم النصر والهزيمة بالكلمات.كانت هذه الحالة خطيرة حين كان التواصل بين البشر مباشراً، ولم تكن قد اختُرعت الصحف أو الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية، فقد أدى فيضان الكلام إلى انهيار حضارة اليونان القديمة، فقد كان المتلاعبون بالألفاظ الذين أُطلق عليهم السوفسطائيون هم آخر مراحل الحضارة اليونانية، وبداية انهيارها، كذلك تمزقت الأمة الإسلامية في العصر العباسي الثاني بعد أن انشغل الجميع بالكلام وتركوا العمل، وبعد أن صارت إبداعات العقل كلمات يتحارب حولها المجتمع وينقسم.والآن صار الكلام أقوى من «النابالم» في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتم حرق مجتمعات كاملة بكلمات تصدر من هذه الفضائية أو تلك، أو من هذا الشيخ أو ذاك، أو من الناشط السياسي المقيم خارج الديار مسترخياً على أريكته، يشعل الفوضى ويدمر الديار، صار الكلام أشد تأثيراً من السلاح، بل صار هو محرك السلاح، بل صار من يحمل السلاح جماداً أو آلة، يحركها صاحب اللسان البليغ الذي يتحكم في عقل الآلة حاملة السلاح، ويحركه كأنه إنسان آلي، لذلك لا بد من تعديل القوانين لجعل من يحركون المجرمين بفتاواهم، ووعظهم هم الفاعلين الحقيقيين للجرائم، أما البلهاء المنفذون فهم مرضى يحتاجون إلى العلاج والتأهيل.عندما يسود ميزان العقل، ويكون اللسان تابعاً لمنطق العقل تستقر المجتمعات، وتنتظم في سيرها، وتحقق النهوض والتقدم، والسعادة لأفرادها، لأنه لن يتم التلاعب بالكلمات لتدمير المجتمعات، كما هو حادث اليوم في عالمنا العربي، الذي صار ساحة تتلاعب فيها فضائيات، ومثقفون وناشطون ومشايخ، وثوار، الجميع يخدعون الجماهير بكلام ظاهره صدق، وهو في حقيقته وسيلة للخراب والدمار.إذا تحكم العقل في اللسان تتوقف الحروب الكلامية التي صارت تشعل الحروب الفعلية، وتزهق الأرواح، وتشرد البشر، وتهدم العمران، وهذه قاعدة بسيطة جداً يستطيع كل إنسان أن يطبقها على نفسه، ولا تحتاج إلى دولة لتُلزم الناس بها، ولا إلى نظام دولي ليفرضها بالقوة.
المحكمة الدستورية التونسية.. أزمة مختصرة

كاتب صحفي تونسي. حاصل على شهادة الأستاذية في التاريخ.
صحفي في جريدة العرب الدولية منذ أكتوبر 2012.
له كتابات في مجلة الهلال، وجريدة الأهرام، ونشرية مقاليد، فضلاً عن كتابات في صحف تونسية عدة.
المحكمة الدستورية في تونس هي إحدى أكبر المفارقات التي تسم المشهد السياسي منذ سنوات، مع أن جميع الأطراف السياسية تجمع على ضرورة إنشائها، لكن الغريب أن الأطراف ذاتها أسهمت، بتفاوت، في توفير معوقات إنشاء المحكمة، التي تعطل تأسيسها منذ المصادقة على دستور عام 2014.
على ذلك فإن النقاش البرلماني، الذي اندلع في الأسبوع الأول من عودة الأشغال البرلمانية، كان عاكساً لهذه المفارقة التونسية.
في أثناء الخلافات القانونية والتقنية حول تقليص أغلبية المصادقة على استكمال انتخاب أعضاء المحكمة (من 145 إلى 131 نائباً)، تسود مفارقات فرعية أخرى تتفرع عن المفارقة المركزية.
الرغبة العارمة في استكمال انتخاب أعضاء المحكمة، تنطلق من حسابات ودوافع متباينة، فبين اعتبار سياسي يرى أن المحكمة الدستورية ستكون المخول الوحيد لإيقاف عربدة الكتل البرلمانية الكبيرة وتغولها، وبين اعتبار آخر يرى أن المحكمة الدستورية ستوقف احتكار رئيس الجمهورية لتأويل النصوص الدستورية (وهو تصور حركة النهضة)، تصبح مهمة انتخاب بقية أعضاء المحكمة عسيرة لأنها محكومة بالتجاذبات والمصالح السياسية، لا بدوافع الجدوى والضرورة.
في هذه المتوالية من المفارقات يبرز السؤال القديم: هل يرادُ، فعلاً، تأسيس محكمة دستورية لكي تقوم بمهامها المحددة لها أم يرادُ إنشاؤها لخدمة مصالح الأحزاب المهيمنة على المشهد؟
الواضح أن مطلب إنشاء المحكمة ازداد إلحاحاً لدى الأحزاب، التي عطلته طيلة سنوات، منذ صعود الرئيس قيس سعيد إلى سدّة الرئاسة، حيث إن غياب المحكمة الدستورية فتح المجال أمام الرئيس ليكون المرجع الوحيد في تأويل نصوص الدستور.. سعيد المختص في القانون الدستوري لاعَبَ الأحزاب التونسية بالألغام التي وضعتها في دستور 2014 لتضمن تحكمها في المشهد السياسي.
المحكمة الدستورية الغائبة إلى حد اليوم، هي الأزمة السياسية التونسية مختصرة، فحين يصبح إنشاء مؤسسة دستورية، بأهمية المحكمة الدستورية، محل تجاذب سياسي ومحاصصة حزبية، فإن ذلك لا يؤثر في المسارات السياسية الراهنة فحسب، بل يحكم أيضاً على مستقبل البلاد من ناحية انحراف دور الأحزاب ووظيفتها في البلاد.
الخلافات القانونية والشكلية حول استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، تحولت إلى حلقة مفرغة تخوضها الأحزاب بمنطلقات المصالح الحزبية (من قبيل البحث عن سبل تحول دون صعود شخصيات محسوبة على الرئيس) أكثر من كونها أولوية وطنية.
كان يُنتظر من المحكمة الدستورية حال إنشائها أن تُصلح معالم قصور المشهد السياسي في تونس، إلا أنها وقعت ضحية ذلك القصور، وفي ذلك «الانقلاب اختصار» للحالة السياسية في بلد أنهكته حسابات الأحزاب.
على ذلك فإن النقاش البرلماني، الذي اندلع في الأسبوع الأول من عودة الأشغال البرلمانية، كان عاكساً لهذه المفارقة التونسية.
في أثناء الخلافات القانونية والتقنية حول تقليص أغلبية المصادقة على استكمال انتخاب أعضاء المحكمة (من 145 إلى 131 نائباً)، تسود مفارقات فرعية أخرى تتفرع عن المفارقة المركزية.
النقد ورد النقد
منذ 18 دقائق
مارك لافيرني
منذ يومين
الرغبة العارمة في استكمال انتخاب أعضاء المحكمة، تنطلق من حسابات ودوافع متباينة، فبين اعتبار سياسي يرى أن المحكمة الدستورية ستكون المخول الوحيد لإيقاف عربدة الكتل البرلمانية الكبيرة وتغولها، وبين اعتبار آخر يرى أن المحكمة الدستورية ستوقف احتكار رئيس الجمهورية لتأويل النصوص الدستورية (وهو تصور حركة النهضة)، تصبح مهمة انتخاب بقية أعضاء المحكمة عسيرة لأنها محكومة بالتجاذبات والمصالح السياسية، لا بدوافع الجدوى والضرورة.
في هذه المتوالية من المفارقات يبرز السؤال القديم: هل يرادُ، فعلاً، تأسيس محكمة دستورية لكي تقوم بمهامها المحددة لها أم يرادُ إنشاؤها لخدمة مصالح الأحزاب المهيمنة على المشهد؟
الواضح أن مطلب إنشاء المحكمة ازداد إلحاحاً لدى الأحزاب، التي عطلته طيلة سنوات، منذ صعود الرئيس قيس سعيد إلى سدّة الرئاسة، حيث إن غياب المحكمة الدستورية فتح المجال أمام الرئيس ليكون المرجع الوحيد في تأويل نصوص الدستور.. سعيد المختص في القانون الدستوري لاعَبَ الأحزاب التونسية بالألغام التي وضعتها في دستور 2014 لتضمن تحكمها في المشهد السياسي.
المحكمة الدستورية الغائبة إلى حد اليوم، هي الأزمة السياسية التونسية مختصرة، فحين يصبح إنشاء مؤسسة دستورية، بأهمية المحكمة الدستورية، محل تجاذب سياسي ومحاصصة حزبية، فإن ذلك لا يؤثر في المسارات السياسية الراهنة فحسب، بل يحكم أيضاً على مستقبل البلاد من ناحية انحراف دور الأحزاب ووظيفتها في البلاد.
الخلافات القانونية والشكلية حول استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، تحولت إلى حلقة مفرغة تخوضها الأحزاب بمنطلقات المصالح الحزبية (من قبيل البحث عن سبل تحول دون صعود شخصيات محسوبة على الرئيس) أكثر من كونها أولوية وطنية.
كان يُنتظر من المحكمة الدستورية حال إنشائها أن تُصلح معالم قصور المشهد السياسي في تونس، إلا أنها وقعت ضحية ذلك القصور، وفي ذلك «الانقلاب اختصار» للحالة السياسية في بلد أنهكته حسابات الأحزاب.
الأخبار ذات الصلة
د. نصر محمد عارف
منذ يومين
د. أسامة أحمد المصطفى
منذ يومين
د. محمد عبد الستار
20 يناير 2021
د. محمد المعزوز
20 يناير 2021
حلمي النمنم
20 يناير 2021
محمد زاهد غول
20 يناير 2021
عمر عليمات
20 يناير 2021
تشو شيوان
20 يناير 2021
معد فياض
20 يناير 2021
وفاء صندي
20 يناير 2021
ميسون أبوبكر
19 يناير 2021
بشار جرار
18 يناير 2021
فينيامين بوبوف
18 يناير 2021
د. فاتح عبد السلام
18 يناير 2021
حسين الشيخ
18 يناير 2021
د. خالد رمضان
18 يناير 2021