الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

الباحثون في نفايات التاريخ

التاريخ مخزون تجربة الأمم، مصدر إلهامها، ومنبع للدافعية الحضارية فيها، وهو الثروة المعنوية لكل أمة، فهناك أمم غنية، وأمم فقيرة في ثرواتها التاريخية.. التاريخ ثروة صامتة جامدة، نحن من نفعّلها، ونحييها، وننتقي منها ما يعيننا على تحديات واقعنا، وما يساعدنا على العبور نحو مستقبلنا، وكذلك هو ميراث أو تراث لم يتم تصنيعه خصيصاً لنا، هم صنعوه لأنفسهم، ولم يكن مصمماً ليجيب عن أسئلتنا، أو ليواجه تحدياتنا، التاريخ هو التاريخ، لا يد لنا في صناعته، ولا قدرة لنا على تغييره، لكن نحن أحرار في توظيف أفضل ما فيه، واختيار أنفع ما فيه لتحقيق أهدافنا في حاضرنا أو مستقبلنا، دون أن نهيل التراب على ما لا نريد، لأنه ملك لأجيال وقرون مقبلة، قد يكون ما نرفضه اليوم من التاريخ نافعاً لهم في سياق آخر، أو زمان آخر، أو مكان آخر.

لذلك نجد الأمم الحية تحتفي بتاريخها، وتفخر به، رغم أن فيه من المساوئ والعيوب ما تقشعر منه الأبدان، لأن البشرية لا تستطيع أن تعيش الحاضر بدون عمق تاريخي، فلا يوجد مجتمع يمكنه أن يعيش حاضره، وتكون له ذات وهوية، دون أن يكون له تاريخ يفخر ويعتز به، ومن ليس له تاريخ ينسب نفسه لأقرب تاريخ من قومه، حتى لا يكون معدوم الوجود فاقد الهوية منزوع الذات.

إن الأمم جميعها تعتز برموزها، وتقدمهم للأجيال المتتالية على أنهم رموز وقدوة، لدفع الأجيال الجديدة على التعلق بإنجازاتهم وبطولاتهم، فليس هناك شخص في التاريخ خالٍ من العيوب إلا الأنبياء والرسل، لذلك كل الرموز التاريخية لجميع الأمم فيها من العيوب، ولكن من ينقل سيرتهم للأجيال الحاضرة لا يركز على العيوب، وإنما على المزايا، لأن الهدف هو صناعة هوية للأمة، وتربية أجيال على هذه الهوية.


لقد ابتليت الثقافة العربية المعاصرة بمن لا يبحثون في التاريخ إلا في النفايات، وللأسف أُتيحت لهم الفرصة، وفتحت لهم القنوات الفضائية لنشر زبالة التاريخ، لإفقاد الأجيال الجديدة الثقة في تاريخها ورموزها دون هدف، إلى أن يظهر الواحد منهم أنه اكتشف شيئاً جديداً لم يصل إليه أحد قبله، بنفس عقلية المراهقين الذين يحبون التظاهر، فأصبحنا كل يوم نسمع من واحد من الباحثين في زبالة التاريخ يطعن في شخصية ما، دون أن يقولوا لنا ما الفائدة من بحثهم إلا مزيد من تدليك الذات المتضخمة للصغير المتخصص في البحث في زبالة التاريخ.