الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الصادق المهدي.. فيلسوفًا

التقيتُ رئيس الوزراء السوداني الأسبق السيد الصادق المهدي أكثر من مرة، كان اللقاءان الأبرز أحدهما في القاهرة عام 2003، والثاني في الخرطوم عام 2004.

التقيتُ "الصادق المهدي" في القاهرة في إطار مقابلة فكرية مطولة، وذلك للنشر في كتابي "خريف الثورة"، وقد دار الحديث بأكمله في الجوانب النظرية والتاريخية.

وفي العام التالي التقيته في الخرطوم، وكنتُ حاضرًا مع الدكتور أحمد زويل في زيارته الشهيرة إلى السودان، وفيها التقينا الرئيس السابق عمر البشير، كما التقينا السيد الصادق المهدي الذي حضر محاضرة الدكتور زويل في قاعة الصداقة التي احتشد فيها الآلاف من الشباب السوداني للاستماع إلى "الجديد في علم الكيمياء".


دار حديث طويل بين الدكتور زويل والسيد االصادق المهدي، وقد شاركت في ذلك الحوار الذي تنوع ما بين حالة العلم وحالة العالم، وكانت مشاركتي بناءً على طلب الدكتور زويل، الذي رأى أنه لابد أن أدلي بدلوى في السياسة الإقليمية والدولية.


أتذكر جيدًا أنني كنتُ محرجًا للغاية في الاستجابة لذلك الطلب، ذلك أنني أدرك تمامًا الحجم المعرفي والمستوى الفكري الرفيع للسيد المهدي، وكنتُ أرى أن نستمع إلى الدكتور زويل في العلم، وإلى الصادق المهدي في السياسة.

ولقد نجحت رؤيتي في الساعة الثانية من اللقاء، حيث تحدث المهدي في عمقٍ ورؤيةٍ مدهشة، وقد قال لي الدكتور زويل بعد اللقاء: لقد انبهرت بالسيد الصادق المهدي، إنه شخصية مثقفة بشكل نادر، فقد كنتُ أسمعه وكأنني استمع إلى كبار ساسة وفلاسفة الغرب، ومن المؤسف أن الفكر السياسي للصادق المهدي لم يصلني من قبل، ولا أعتقد أنه وصل حيث يجب أن يصل.

لم أندهش لرأى الدكتور زويل، فقد كنتُ قد استمعت مطولًا إلى السياسي والفيلسوف السوداني المرموق قبل عام في مكتبه بحىّ مدينة نصر شمال القاهرة.

الصادق المهدي شخصية رائعة، هو ذلك الارستقراطي النبيل، وهو أيضًا ذلك الإنسان البسيط، ولكن تلك الثنائية في الرقي والتواضع لم يستطع تحقيقها في الفلسفة والسياسة، ذلك أن هذا المفكر الكبير لم يتمكن من نشر فكره بالقدر الكافي، ذلك أنه كان "متعاليًّا" من الناحية المعرفيّة، ولا أعتقد أن العامة في السودان أو خارج السودان قد أحاطوا بفلسفته الرفيعة، أو استوعبوا تنظيراته الرصينة.

إنني كلما أعود إلى ذلك الحوار الذي دار بيننا حول الثورة والدولة، واتجاهات الفكر الإنساني.. أقف مشدوهًا من جديد: كيف مرّت قامة عربية بهذا الوزن الثقيل من دون أن ينال وطنه من فلسفته ورؤاه.

إن من بؤس السياسة في العالم العربي معظم العقود الأخيرة سطوة ذلك التحالف الردئ من عديمي الموهبة.. وطرد العملة الرديئة للعملة الجيّدة، وليس أدل على ذلك من أن شخصًا محدود الذكاء مثل عمر البشير يحكم بلاده ثلاثين عامًا، بينما يقضي الصادق المهدي العقود الثلاثة ما بين السجن والمنفى.

رحم الله الصادق المهدي.. سياسيًا وفيلسوفًا وإنسانًا، ومنح السودان القوة والعزّة.