السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

«بريكسيت».. الخطأ التاريخي والطلاق المحتوم

عندما كنت فتىً صغيراً، وأثناء عطلة صيفية كنت أقضيها في قرية ألمانية مع بعض الزملاء الألمان، كنّا نستمع ذات يوم لأحد خطابات الجنرال شارل ديغول عن طريق جهاز الراديو حين راح يردد مقولته: «كلا.. بريطانيا لن تنضمّ إلى السوق المشتركة، وهي لا تنتمي لأوروبا، ولا تعدو أن تكون حصان طرواده بالنسبة لأمريكا»، وشعر زملائي بالدهشة وتساءلوا: «كيف أصبح جنرالكم على مثل هذا العداء ضد بريطانيا، ألم يحرص ونستون تشيرشل على استضافته في لندن ودعمه اللامحدود أثناء الحرب العالمية الثانية، ألم يقدّم له يد العون لتحرير فرنسا من مستعمرها النازي»؟.

شعرت عندئذٍ بالإحراج، ولم أعرف كيف أردّ على أسئلتهم، والآن، وبعد أكثر من نصف قرن، وعندما تأكّد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكسيت» أن ديغول كان على حق، أدركت تماماً أنه كان يعلم حق العلم أن بريطانيا ربما تكون أفضل من البريطانيين أنفسهم، وكان يشعر بالامتنان والشكر لكرمهم وحسن ضيافتهم، ويدرك أنهم كانوا مقتنعين بتفوقهم وتميّزهم، وهم الذين تمكنوا من دحر كل أعدائهم، من نابليون بونابرت وحتى أدولف هتلر، وهو يعلم حق العلم ما الذي يعنيه العيش في جزيرة بالنسبة لهم، وأن يكونوا في مركز العالم، وعندما كانت العاصفة تهبّ على القناة الإنجليزية، أصبحت الأرض البريطانية هي المعزولة.

ولقد تغير الزمن الآن، وأصبحت بريطانيا بحاجة إلى بقية العالم، وأصبح رئيس وزرائها بوريس جونسون بحاجة للتعاون مع دونالد ترامب وليس العكس، كما أن حاجة بريطانيا لأوروبا أكبر بكثير من حاجة أوروبا لها، بسبب قوتها والحجم الهائل لتجارتها ووزنها السياسي على مستوى العالم، ولهذه الأسباب كلها، يمكن القول أن أزمة «بريكسيت» ليست إلا إحدى صفحات تاريخ يتضمن العديد من الفصول المقبلة.

وفيما يتعلق بأوروبا، يمكن القول أن هذا التحدي الذي يفتقر إلى أي مبرّر، سوف يدعمها ويقوّي من عضدها بدلاً من أن يؤدي إلى إضعافها وفقاً لما كان يتوقعه البعض.

ونحن نرى الآن عن كثب كيف أن الدول الأعضاء الـ 27 للاتحاد الأوروبي بقيت موحدة بالرغم من اختلاف ثقافات ومصالح شعوبها، واليوم، باتت هذه الدول أكثر وعياً وإدراكاً للقيمة الحقيقية للاتحاد الذي يجمعها، والذي يقوم على أسس التضامن وتكريس القِيم الإنسانية والاجتماعية التي تسمو على المصالح الاقتصادية والمالية.

وتنطبق القوانين الاتحادية على الدول الأعضاء كلها، وضمن بيئة تنافسية عادلة تأخذ في الحسبان المستويات المختلفة من الثروات والمردود التنموي، ولا شك بأن خروج بريطانيا العظمى من الاتحاد، وهي التي تشعر بأنها أكثر أماناً في عالم تحكمه «شريعة الغاب»، سوف يجعل الاتحاد الأوروبي أكثر قوّة مما كان عليه، وفي وقت أصبحت فيه حرب التنافس الاقتصادي تتميز بضراوة لا سابق لها، سوف يكون من بشائر الخير وطوالع الحظ أن تبقى القارة العجوز موطناً للأمن والسلام والاستقرار.