السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

الشرعية.. السيادة للدولة

هناك اليوم نقاش مستفيض في الغرب حول إعادة تقييم أدوار الدولة، والتفكير في وضع إطار مؤسساتي مختلف يتناسب مع حجم التحديات الجديدة. التي طرأت على العالم بعد الجائحة.

هنا لا بد من التذكير بأن فعل المراجعات وإعادة التقييم يحدث تاريخياً كلما وجدت الدولة نفسها محاصرة بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية.. لا يهم الدولة، نظرياً، الالتزام الأخلاقي والقيمي الذي قطعته على نفسها قبلاً وهي تجدد عقدها الاجتماعي مع المجتمع، لأن الذي يهمها هو تثبيت مصلحتها السياسية، والبحث عن صيغ للتعايش مع بداهة خرق التزاماتها السابقة بحجة المصلحة العامة.

لقد تحدث عالم الاجتماع ماكس فيبر طويلاً عن شرعية الدولة، وأحقية ممارستها لهذا الخرق، لأنه من طبيعتها ومن خاصية وجودها، ولا تعني هذه الطبيعة تجبّرها ومجاوزتها لقيمة الأفراد الذين تُعبرعنهم، وإنما تعني الخروج عن المنطق الذي ينظم الفرد بالفرد أو الفرد بالجماعة، لتمارس قيمة الدولة التي لا تشبه، حسب الفيلسوف هوبز، قيمة المجتمع، وإن تشبهها بالمجتمع يعني سقوطها في التفاصيل والابتذال اليومي، أو وقوعها في ضجيج العلاقات القاعدية التي هي من خاصية الأفراد، وهم يؤسسون لمعنى الاجتماع المدني.


من أمثلة هذا الخرق، تراجعها عن نموذج الدولة الحامية كما ترسخ في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تراجعت عن التزامها بالتغطية الاجتماعية الشاملة وتوفير رفاه العيش لكل الأفراد، من خلال التأمين الصحي والتعويض عن البطالة، وفقدان الشغل والحق في السكن والثروة الوطنية، غير أن هذه الالتزامات لم تستطع أن تصمد طويلاً بفعل التحولات الكبرى، التي شهدها العالم ديمغرافياً واقتصادياً وسياسياً وأيديولوجياً.


وبذلك بدت تفتر خلال ثمانينات القرن الماضي، لأنها أصبحت مكلفة بالنسبة للدولة ولم تعد تساير بنية توازناتها العامة، ما عرّضها إلى أزمات مالية واقتصادية عميقة، كما أن صيغة توسعها داخل المجتمع والتحكم في كل مفاصله، من خلال مبدأ الحماية، أوقعها أيديولوجياً وسياسياً في مطبة التحّكم والمراقبة على النحو الذي تحدث عنه الفيلسوف ميشيل فوكو.

أثارهذا الأمر ـ بعد الثمانينات ـ مقاومات اجتماعية مزلزلة أفضت إلى سخط عام اقترن بإحساس المجتمع بتخلي الدولة عن التزاماتها وأدوارها، وبنهاية معنى العقد الاجتماعي بالمفهوم الذي أورده روسو، وعليه، تنامت دعوات سياسية في الغرب بمرجعيات فكرية مختلفة بإسقاط الدولة الحامية، التي تعبر عن خلفية ليبيرالية متجاوزة لم تعد صالحة للمجتمعات المعاصرة، ورافقت هذه الدعوات شيوع فكرة موت الدولة، أو ما بعد الدولة استناداً إلى أطروحة ما بعد الحداثة التي اكتسحت العالم الغربي، وانتقلت إلى ثقافتنا العربية من خلال كثير من المثقفين العرب.

لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وصعود الإرهاب في العالم، ثم كوارث ما يطلق عليه بالربيع العربي متبوعة بجائحة كورونا، أصبحت فكرة عودة الدولة وتوسعها في المجتمع مستساغة باتفاق ومطلوبة بإلحاح، بل استقطبت نظريات جديدة في الموضوع.

أخيراً، تبقى فكرة تدخّل الدولة وقوتها أساساً شرعياً للسيادة والانسجام المجتمعي وسلامته.