الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الدرس السوسيولوجي.. تحديات اليوم

أصبح السؤال السوسيولوجي والأنثروبولوجي حول المجتمعات الإنسانية اليوم، يدور حول ثلاثة أنساق مركزية، وهي: الأنساق الثقافية، وأنساق العلاقات الاجتماعية، وأنساق الأنماط الحياتية.

ولئن كانت هذه الأنساق جميعها متداخلة، فإن توخي الدقة والتزام التخصص، جعل من الوقوف على تمايزات وتفاصيل هذه الأنساق ضرورة علمية وأكاديمية، لذلك يعتبر البحث في الأنساق الثقافية من حيث هي تعدد مفتوح يشمل المعارف والعادات والأعراف والقوانين والأخلاق والفنون، مجالاً مركزياً لفهم كلية المجتمع ونوعيته.

ومن خلاله يستطيع الباحث الوقوف على ما يفكر فيه الفرد، ويستوعب خلفيات مجمل ممارساته، غير أن هذا التعدد المركب لهوية المجتمع، يقتضي توازناً إلزامياً بين مكوناته وانسجاماً داخلياً بينها، بدون إلغاء صفة التنافس أو الاختلاف الذي يحصل من داخلها، فقد تختلف خاصية التقاليد مع الإبداعية الفنية بتمردها على العرف ونقده مثلاً، ولكن لا ينبغي أن يصل هذا التجاذب إلى خلق وضعيات تمس بالانسجام العام وحريات الأفراد.

هنا نصل إلى أنساق العلاقات الاجتماعية باعتبارها مخصوصة بالبحث في نظام العلاقات بين الأشخاص من حيث ثباتها وتغيرها، وفي اجتماع الأفراد الذين يكونون المجتمع، غير أن ما يحدد العلاقات ويضبطها هو النسق الثقافي الذي يعتبر بمثابة الروح في هذه العلاقات، إذ لا يمكن أن نتصور علاقة بين الناس بدون معنى وعواطف ورغبات، ومضمون جامع، أو مضمون مُفرّق وذلك في أقبح الحالات.

لقد اقترن نجاح المجتمعات وتقدمها بشرط توازن العلاقات الاجتماعية عبر توازن العلاقات الثقافية، ولم تجعل هذه المجتمعات الناجحة أبداً من اختلافها الثقافي مصدراً لانفصام علاقاتها الاجتماعية وانخراطها في مسلسل الكراهية، كما هو الشأن في كثير من الدول العربية.

إن انسجام العلاقات الاجتماعية وتوازنها، ومن ثمة بناء مجتمع قوي، قد تم بشرط تطويع التمايزات الثقافية وتعدد روافدها الداخلية ضمن وحدة جامعة نابذة لهيمنة المكون الثقافي الواحد على حساب الآخر، وفق هذا المبدأ وحده تتحقق ما يطلق عليه الأنثروبولوجيون «العضوية الاستغراقية لماهية الفرد داخل المجتمع»، التي تعني أخيراً الارتقاء بالفرد من مجرد مكوّن مستقل بذاته إلى مواطن له واجباته وحقوقه.

أما أنساق الأنماط الحياتية التي تجمع جدلياً بين الأنساق الثقافية والأنساق الاجتماعية، فيقصد بها نمط الحياة والعيش داخل نسيج اجتماعي خاص، وهو نمط راصد لنوعية علاقة الفرد بالفرد وعلاقة الفرد بالجماعة.

قد تكون هذه العلاقة سياسياً استبدادية وقد تكون ديمقراطية، كما تكون اجتماعياً علاقة تضامنية أساسها الثقة، وقد تكون علاقة ذاتية أنانية أساسها الشكّ والبحث عن الخلاص الفردي.

لقد اعتمد الاستعمار الغربي كثيراً لتسهيل مأمورية غزوه على دراسات سوسيولوجية لأنساق الأنماط الحياتية في البلدان التي استهوته مثل المشرق العربي وشمال أفريقيا، ففهم كيفية تمثل الفرد للسلطة مثلاً وللاستبداد وللحرية، وكيف يعيش قيمة الوطن، يمثّل اليوم مدخلاً أساسياً لفهم مختلف المجتمعات التي بات أفرادها في منزلة اللايقين والخوف المريب من الغد.