الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

«الحداد».. هويّة هذا القرن

هناك بالتأكيد جمود سريالي يضرب العالم وهو يسرف في الاستسلام لقدر أعاد حياة البشر إلى درجة الصفر، حيث أصبح الإنسان فيه يهرب بطريقة أخرى إلى تخاييل الأساطير البائدة ليقف في مواجهة الفناء عبر فيروس لا مرئي، بمنطق ليس بالإيماني ولا بالعلمي، منطق مفارق ينتصر لمعجزة الخلاص العجيب أو لهوس النّجاة كما في أمثولة الخوارق.

لم يعد هناك تَصاد بين العالم والإنسان لإثمار تجربة الوجود، هناك صوت واحد لا يسمعه إلا صاحبه، صوت يقرب إلى الفجيعة، يردّد الفراغ والفزع المقيت، ارتباك مزلزل جعل الإنسان ذا الصوت الواحد يجرّ وراءه عربة الحداد وهو يواجه تسلطن الوباء وصولة اللايقين.

هذا الحِداد كهوية جديدة للقرن الـ21، مقرون بطمس الملامح عبر واق يحجب نصف الوجه، أفقد الإنسان توازنه ليُصيّره إلى شبيه لا يمثّل الهُو بالمرّة، هو شبيه فقط، فنحن نعيش عصر الشبيه القائم على التّباعد مع النّظير باعتباره مخيفاً لأنّه مشروع للفناء، حمّال للوباء.


حال هذا الإنسان-الفرد هي حال الدولة والمجتمع، أي نحن بإزاء دولة شبيهة ومجتمع شبيه، لأن الدولة أول الأمر فقدت الثّقة في نفسها، صدمها عناد الفيروس وجعلها تتوارى خلفاً تمضغ عجزها، هاربة إلى الأمام، تمارس طقس القربان كما حدث في بريطانيا وإسبانيا وبدرجة أقلّ في أمريكا وإيطاليا وفرنسا، لمّا لجأت سريّاً، وهي تواجه أزمة آلات التنفّس وندرة أسرّة المستشفيات إلى ترك كبار السّن يموتون عوض اليافعين، هروبها إلى الأمام جعلها تتمركز حول ذاتها لتعود أكثر سلطوية وتحكّماً في الأفراد، بحجّة الحدّ من العدوى.


ولمّا ظهر اللّقاح رافقه لغط عمومي كبير، تمّ اعتباره الأوّل من نوعه تاريخياً منذ اكتشاف الإنسانية للقاحات، ليدلّ على اللايقين وعلى انحسار الشرعيات الصلبة التي تحمل معنى الدّولة، لأن هذا الإنسان لم يعد يثق في نوايا منظّمة الصحة العالمية وفي الرمزية التي تحملها، خوفه من الفناء جعله يتعلّق بتخاييل لا مادية ولا مؤسّسية.

تخاييل لها ارتباط باللادولة، بميتافيزيقا وجود ملحمي تكون فيه الذّات أساس الوجود وليس العكس، لأنها ذات مرتبطة بالنّجاة، تستمدّ معناها من الفرد النّاجي في تنكّر تام للوجود بدلالة الجمع، وللمؤسّسة بدلالة الدّولة التي لم تعد في نظر هذا الفرد إلا أداة للسيطرة والقمع، هذا ما تؤكّده المظاهرات الحاشدة ضدّ الحجر الصحي التي عرفتها أعرق الديمقراطيات مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا.

حتى المجتمع غدا شبيهاً، ليس من خلال إقرار التباعد كسلوك لا اجتماعي فقط، وإنّما عبر تحوّل المجتمع إلى سردية قيمية جديدة لا تهتم بالعلم والدين والأخلاق، وإنّما تنحاز إلى اللامعنى، إلى نوع من العبث جعل المجتمع ملخّصاً في قَدَرية لا متناهية من مآسي اليومي، يردّد فيها الفرد أخبار الموت في دورة متكرّرة من الهلع تحوّل فيها المجتمع إلى أفراد متناثرين، كل واحد يحمل خوفه الخاص، ويرى خلاصه الفردي بطريقته.