الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

العرب.. و«الشخصية القاعدية»

تساءل «روبرت فيسك» ـ الصحفي البريطاني ـ في أواخر أيّامه، وقد اهتم بالشرق الأوسط لأكثر من أربعة عقود: عن الأسباب الخفيّة التي جعلت العرب لا ينجحون في تحقيق نقلات حضارية حاسمة، تُنهي معضلاتهم التاريخية الكبرى.

مصدر تساؤله، حسب زعمه، آتٍ من كون الإنسان العربي لم يُنْهِ منذ عشرات القرون أزماته الوجودية التي تحوّلت اليوم إلى عائق ذاتي عمّق تناقضاته الداخلية، وأصبحت الأصل في اعتلال «شخصيته القاعدية» وفقدان توازنها، بحيث حوّلها في القرون الأخيرة إلى كائن مطواع سهل الانقياد، وله «قابلية لاشعورية في أن يكون مستعمَراً»، مستدلاً على ذلك بنازلة «قبول» العرب لحكم الأتراك الذي دام أربعة قرون، بالرغم من مقاومة المماليك لغزوهم في معركة مرج دابق وفي معركة الريدانية.

قد يعزى قبول هذا الاستعمار التركي من طرف أغلبيّة العرب إلى التمسّك الوجداني بفكرة الخلافة، وهذا افتراض ممكن قد يعدّ سبباً ثقافيّاً آخر عمّق من جهته اعتلال هذه «الشخصية القاعدية»، ولا يزال هذا الافتراض يجدّد رغبة تركيا الأردوغانية في استعمار العرب ثانية متناسية الجرائم التاريخية المهولة التي ارتكبها العثمانيون في حقّ العرب.


يبدو أن التاريخ القريب لاستعمار الدول العربية، بالرغم من المقاومات البطولية لشعوبها، ناتج في العمق عن هذا الاعتلال بالرغم من التفسيرات السياسية والاقتصادية التي حُوّلت إلى حقيقة لا يزال الجيل الجديد من العرب يؤمن بها حتّى النّخاع.


إن تساؤل «روبرت فيسك» بخصوص عجز العرب عن خلق قطيعة تاريخية مع معضلاتهم الكبرى، يثير نوعاً من الفضول لمعرفة مكوّن تخلّف العرب اليوم، خاصة أنه استند إلى فكرة «الشخصية القاعدية» وهي فكرة أنثروبولوجية مشتقة من التحليل النفسي، لم توظّف بعد في مقاربة هذا الإشكال.

تساعدنا هذه الفكرة على فهم علاقة النخبة العربية بالسلطة، خاصة النخب الحاكمة، إذ يكشف لنا القرن الماضي أن حصول البلدان العربية على استقلالها، بعد قبول مختلف نخبها تقسيمها إلى دويلات، قد رافقته ظواهر غريبة تاريخياً تختلف عما حدث في شعوب أخرى بعد أن حصلت على استقلالها.

إنها ظاهرة الانقلابات المتواترة للنخب الحاكمة على بعضها البعض كما حدث في سوريا ومصر والعراق واليمن وليبيا وتونس والجزائر، انقلابات لاستبدال نظام الحكم دون بدائل سياسية وخريطة طريق للتنمية، وقد استفحلت لاحقاً لتكتسي لبساً مختلفاً تمثّله نزعات دينية وعقدية، تخفي في صلبها رغبة مرضية في السلطة، مدخلها هذه المرّة تسييس الدين وتديين السياسة.

هكذا بدأت «الشخصية القاعدية العربية» معتلّة بمرض السّلطة، مُنغلقة حول ذات نرجسية راغبة في التسلّط، لا تكترث للتأهيل التاريخي للجماعة (الأمة) في سياق هوية مميزة.. إنها تقبل بأي استعمار وبأي تقسيم آخر لترابها، لا يهمها إلا بلوغ الحكم، لذلك فهي مصرّة على استمرار الفتن والاغتيالات والتفنن في الخيانة، بدون أن تسأل نفسها عن مسؤوليتها التاريخية في تفتت الهوية، وإمكان تذويبها في العدم.