الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

سلام في «كاليدونيا»

نتحدث هنا عن جزيرة نائية لا تشكل أكثر من مجرّد نقطة على خريطة العالم، تقع في القطاع الأوسط من جنوب المحيط الهادئ، وهي قريبة من أستراليا ونيوزيلاندا، وتُدعى «كاليدونيا الجديدة» New Caledonia.

استعمرتها فرنسا، وجعلت منها في البداية منفى ومستعمرة خاصة بالسجون، واستقبلت المحكومين السياسيين الذين تعتقلهم فرنسا في الوطن أو في مستعمراتها مثل الثوار الجزائريين والمناضلين الفرنسيين في حكومة ما يعرف باسم «كومونة باريس»، وما لبث الفرنسيون أن اكتشفوا فيها كميات ضخمة من خامات معدني النيكل والكوبالت.

وأصبحت هذه الجزيرة التي تبلغ مساحتها 20 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها 300 ألف نسمة، تشتهر بأنها أكبر مصدّر لمعدن النيكل في العالم، وتستأثر بأكثر من ربع جمالي الاحتياطي العالمي منه، وتكمن المشكلة الرئيسية لهذه الجزيرة في تهميش سكانها الأصليين من قبائل «الكاناك»، بحيث دأبت السلطات على استبعادهم عن الحياة العامة وعزلهم في المحميات الإنتاجية المنتشرة في الجبال أو قريباً من الشواطئ الوعرة، وكان شعورهم بأنهم تحولوا إلى أقلّية عددية داخل وطنهم، دافعاً قوياً لهم للحفاظ على ثقافتهم وأسلوبهم الخاص في العيش بكل إخلاص.


وعندما كنت طالباً في باريس في سبعينيات القرن الماضي، تعرفت على بعض قادة المستقبل الذين جنّدوا أنفسهم للدفاع عن حقوق مواطني تلك الجزيرة، وكانت الأمور قد تطورت هناك إلى حد حصول مجابهة عنيفة بينهم وبين السلطات الفرنسية في الثمانينات خلفت عشرات الضحايا.


بعدها تم التوصل إلى هدنة عام 1998 بعد مفاوضات شاقة وطويلة اغتيل خلالها زعيم قبائل الكاناك «جان ماري تجيباو»، وكان الاتفاق يقوم على التقاسم العادل للسلطة بعد أن تُمنح الجزيرة وضعية تشبه الحكم الذاتي تحت السيادة الفرنسية، واتفقت الأطراف على إجراء استفتاء حول الاستقلال عام 2018، وجاءت نتيجته مضادة للاستقلال بأغلبية ضئيلة، وتم إجراء استفتاء ثانٍ في شهر سبتمبر من عام 2020، ومرة أخرى صوتت أغلبية ضئيلة أقل عددياً من الاستفتاء السابق ضد الاستقلال عن فرنسا، ويولي القيّمون على الأوضاع في الجزيرة اهتماماً مشتركاً وراسخاً للحفاظ على السلام والوئام بعد أن اتَّضح أن كل طرف يمثل نصف عدد سكانها.

ويدور موضوع التنافس الآن على تقاسم ثروات الجزيرة، وخاصة معدن النيكل، الذي تحول إلى ثروة استراتيجية، إذ تستورد الصين وكوريا الجنوبية واليابان معظم إنتاجها منه من خلال التعامل المباشر مع حكومة جديدة مؤيدة للاستقلال، ولقد أثبتت الأحزاب التي تمثل كل الطوائف أنها تحتكم كلها إلى رؤية متفائلة لتحقيق مستقبل سياسي مزدهر لجميع سكان الجزيرة من دون استثناء.