الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

النُّخب العربيَّة.. والدولة

ارتبطت وظيفة الوعي العام تاريخياً بالمعنى الذي يحقّقه هذا الوعي في التملّك الجماعي والفردي لمضامين العدالة والديمقراطية، وكلّما حدث هذا التملّك جماعياً أصبحت قيمة الحرية مسؤولية المجتمع لحمايتها، لأن المفهوم الذي سيكوّنه بخصوصها سيخضع حتماً إلى معيار الرغبة المشتركة في أن تكون الحرّية حسب الفيلسوفة «حنّا أرندت» فضاء للكرامة المشتركة وللإنسانية المنسابة، أي انتصار الإنسانية إلى الانتظام بين الأفراد لبناء هرمونية المجتمع على أساس نبذ الفوضى ودرء الانحياز إلى نزوة الأنا، من هنا تأتي الخلفية المعنوية والفلسفية لحقوق الإنسان، حسب رأي أرندت.

ولمّا كانت صناعة الوعي العام وترسيخه يؤولان إلى النّخبة، فهذا يعني أن هذه الصناعة تستدعي صفوة من الناس يتمتعون بمهارة خاصة في التأثير والتوجيه، وبقدرة عالية، حسب تعبير«ماكس فيبر»، على اختراق الوعي الزائف أو المغلوط وتعديله بما يتناسب مع الوعي المطلوب فكرياً وحضارياً.

ليست هذه الصفوة المؤثرة إلا النخبة المفكرة والمثقفة، بحيث إن قدراتها الرمزية وحدها القادرة على مخاطبة العقل والوجدان معاً، وخلق حالة من الاتصال العجيب بينهما، يحدث بموجبه تفاعل كيميائي «للآدمية العليا» تعبيراً عن الإنسان الكلّي.


وبحصول هذا التفاعل يسهل التأثير وينقاد الإنسان إلى الطريق الذي ترومه هذه الصفوة، وكلما حدث ذلك، حدث تكوّن «نوع الوعي العام» الذي تنجم عنه بالضرورة نوعية البناء الحضاري وطبيعة القيم الواسمة للمجتمع.


ونظراً لهذه المهمة الوظيفية للنخبة، نُلْفِي أفلاطون في «المدينة الفاضلة» وقد جاراه الفارابي، يجعل من المفكرين والفلاسفة أحق من غيرهم في الحكم نظراً لاتصافهم بالحكمة وقدرة تأثيرهم في العامة.

هذا هو المعنى نفسه الذي ذهب إليه سان سيمون في نص شهير نشره سنة 1819، حيث اعتبر النخبة «روح الأمة وضميرها الخلفي»، وأن فرنسا إذا فقدت علماءها ومفكريها وفنانيها، لن يعود أي معنى لملوكها ونبلائها، بل ستخسر كل تاريخها وتعود إلى الصفر.

وإذا كان التغيير اليوم عملية معقدة تشتبك فيها قوى وعلاقات جعلت من الدولة آلة جهنمية استطاعت إما ابتلاع النخب وإما عزل العصية منها وإبطال تأثيرها بخلق نخب مضادة، فإن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على النخبة ذات المشروعية نفسها، لما تنكرت لأدوارها التاريخية بقبولها التماهي في أدوار الدولة واستعدادها لفقدان تلك الأدوار المطلوبة منها، وهي تغمض العين عن بلورة وجهة نظرها إزاء أخطاء الدولة وانحرافاتها.

وهذا ما بات ملاحظاً في البلاد العربية بقوة منذ التسعينات من القرن الماضي، إذ لم تعد النخبة العربية، المثقفة بخاصة، تمارس وعيها بنقد جدلي للظواهر السياسية المتراكمة في المجتمع العربي، فبادلت خطأ الدولة في تدجينها لها بخطأ لعب دور الناطق الرسمي باسمها والانحياز إلى خطابها.

وبالنتيجة، دفعت الدولة والنخب بكل أنواعها فاتورة سياسية ومجتمعية ثقيلة، تتمثل في التطرف العنيف وفوضى المجتمعات العربية وتفتت الدولة الوطنية.