الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

ما أحوجنا لـ«عرفجة»

حكى الأصمعي المتوفى 831 أنه كان يطوف حول الكعبة المشرفة، ورأى رجلاً يتعلق بأستارها، ويدعو في تضرع شديد مناجياً ربه: «اللهم ميتةً كميتةِ عرفجة»، فتحير الأصمعي من هذا الدعاء الغريب، رجل يدعو الله بأن يموت مثل صديقه، أو قريبه «عرفجة»، وكان من المنطقي أن يثور في ذهن الأصمعي السؤال المركزي في هذه القضية: كيف مات «عرفجة»؟ سار الأصمعي خلف ذلك الرجل حتى انتهى من طوافه، وسأله: كيف مات «عرفجة» الذي تدعو الله أن يرزقك ميتةً مثل ميتته؟

هنا كانت الإجابة صادمة، فعرفجة لم يمت في موقف فروسية، ولا دفاعاً عن أهل ووطن وعرض، ولم يمت في أيّ حالة من الحالات التي تعود الناس أن يفتخروا بها، أو يروها من علامات حسن الخاتمة.

وكان جواب صاحب «عرفجة» واصفاً كيف مات بأنه: «أكل حنيذاً، وشرب نبيذاً، ونام في الشمس فمات شبعان ريان دفآن».


فكل الحكاية أن «عرفجة» أكل لحماً مشوياً على طريقة أهل اليمن، وشرب عصير عنب غير مخمر وغير محرم، ونام في حالة من الدفء، فتحققت له الثلاثية الأخطر في حياة البشر التي حرمت منها المليارات منهم في هذا الزمان، وهي الطعام والشراب والدفء أو المأوى.


نموذج «عرفجة» بعيداً عن البعد الفكاهي الطريف فيه، يقدم لنا في هذا العصر درسين مهمين، خصوصاً ونحن في شهر رمضان، أولهما: على المستوى المجتمعي والإنساني، وهو أن هناك من البشر ملايين، بل مليارات يتمنون ميتة «عرفجة»، ويحتاجون إلى جهود من الدول، والمنظمات الإنسانية كي تحقق لهم الحد الأدنى من الحياة بالنسبة لنا، أو إن شئت فقل الحد الأعلى بالنسبة لهم، وهنا نتذكر ما حققته الصين في عام 2020 بالقضاء على الفقر المدقع، وإخراج أكثر من 850 مليون إنسان خلال 40 سنة من حالة الفقر المدقع إلى الحالة الإنسانية، وكانت السياسة الصينية تتبع نموذج «عرفجة» وهو تمكين هذه الملايين من الطعام الصحي، واللباس، والمسكن الكريم.

أما الدرس الثاني من نموذج «عرفجة» فهو: فردي على مستوى الإنسان في هذا الزمان الذي سيطرت عليه الأشياء، وتراجعت فيه قيمة الإنسان، وسعادة الإنسان أمام ملكية الأشياء التي تحولت إلى غاية في حد ذاتها، فقد أصبح الإنسان يملك الأشياء لا ليسعد بها، وإنما لهدف الملكية ذاته، دون أن يكون له علاقة بالسعادة، وتضاءلت قيمة العطاء أمام تغول قيمة التملك، و«عرفجة» يذكرنا أنها وجبة طعام، وشراب طيب، ونوم هانئ.. وعلى الدنيا السلام.