الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الأفكار.. والأصنام

«عندما تغيب الفكرة.. يبزغ الصنم».. هذه المقولة تنسب للفيلسوف نيتشه، ومن بين معانيها أن الجهل والشعوذة وتصدير الأساطير والأوهام، تسيطر على المجتمع عندما يغيب العلم والفكر.

ومن بين «الأصنام» التي سيطرت على الحقل السياسي العربي في العشرية الأخيرة هي «المؤامرة الخارجية» أو «اليد الأجنبية» وتدخلها «العنيف» في الشأن الداخلي.

وهذه «اليد» لا ينبغي نفيها، فهي موجودة في إطار التدافع السياسي بين الدول، فأمريكا اتهمت روسيا بالتلاعب بانتخاباتها، واتهمت الصين بالتلاعب باقتصادها وتجارتها، وتركيا تتهم اليونان في بعض قضاياها والعكس صحيح، والأمثلة كثيرة.

وقد بينت في أحد مقالاتي كيف تعتبر الثورات الملونة «يداً خارجية» وكيف تدخلت «كومبريدج أناليتيكا» في الانتخابات الأمريكية، ودورها في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكيف أجج الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي الثورات العربية، وغيرها من الأمثلة.

إذن، لا يمكن استبعاد اليد الخارجية، وسمِّها إن شئت المؤامرة الأجنبية، فيما يحدث في كثير من البلدان، لكن المواطنين أصبحوا يشمئزون من ذكرها في كل المسائل، حيث فقدت هذه «التهمة» أو هذه «الحقيقة» قيمتها، بعد أن راحت تتكرر في كل مرة، حتى أن شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت تسخر من ردود فعل الحكومات، وتتوقع ردة فعلها قبل أن يصدر بيان أو تصريح رسمي «إنها اليد الأجنبية».

لم يحدث في الجزائر أن اتهمت «اليد الخارجية» بالعبث بالشأن الداخلي مثلما حدث هذه السنة، فقبل أشهر اتهم الجيش والحكومة أطرافاً أجنبية بشن حرب إلكترونية على الدولة، لاحقاً اتهمت أطرافاً أجنبية بالوقوف وراء الحراك الشعبي، وبعدها جاء الدور على «الحركة الانفصالية في منطقة القبائل».

وقد تكون مثل هذه التهم معقولة ومقبولة وقابلة للتصديق، لكن خلال شهر رمضان فقط، اتهمت وزارة الداخلية أطرافاً أجنبية بالوقوف وراء إضراب «الحماية المدنية» ووراء قلة السيولة، ونبَّهت الحكومة المواطنين من وجود أيادي خارجية تحرك الاضرابات والاحتجاجات الاجتماعية كإضراب المعلمين، بل إن ارتفاع الأسعار اتهمت فيه «اليد الخارجية» ومثل هذه وغيرها من الصعب أن يصدقها الناس.

وقبل أشهر، تحدث الرئيس عبدالمجيد تبون عن وجود «ثورة مضادة» لمشروع الجزائر الجديدة الذي يقوده، وواضح أنها إما يد داخلية وإما خارجية وإما الاثنان معاً.

والواقع، أنه عندما تضعف الحكومة المركزية، وتفشل في التجاوب مع طموحات الناس، تتميَّع الأمور، و«يبرز الصنم»، لغياب «الفكرة»، ثم يتطور الأمر ليصبح خارج السيطرة، وحينها لا تنفع لا سياسة التخويف ولا سياسة الترغيب.