الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

النهضة.. و«توريث العقلانية»

منذ أن كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي عن شروط النهضة في منتصف القرن الماضي، والكتابات الفكرية عنها وشروطها ومصطلحاتها تتوالى لأكثر من نصف قرن، بين الحديث عن شروط فلسفية قومية عن الحداثة والليبرالية والاشتراكية العلمية واليسارية، وبين الحديث عن التجديد الديني ومصطلحاته وتراثه ومدارسه وشخصياته التاريخية.

من جهته، حاول الفكر الحداثي أن يقيم فلسفته النهضوية على إقصاء الدين، على طريقة الفلسفة الأوروبية الحديثة، باعتبار الدين شأن غير قابل للإثبات عن طريق العقل، وإنما حُصر قبوله عن طريق القلب والتسليم الوجداني، ومن مدخل الجانب الروحي في الإنسان وليس الجانب المادي والعلمي، وذهبوا لنفي إمكانية إثبات حقائق الدين عن طريق العقل، بينما سعى أصحاب النهضة على أساس التجديد الديني إلى تأكيد الجانب العقلي في الفكر الإسلامي الحديث، بل ومحاورة غيرهم من أصحاب الفلسفات والأديان الأخرى على أساس العقل والعلم والفلسفة أيضاً.

إن المكانة الكبيرة للعقل في القرآن وجعله حجة حوارية مع المخالفين، أوجد احتراماً للعقل وتقديراً عظيماً له عند المسلمين، مما أوجد حالة من العقلانية المتميزة في العصر الإسلامي الأول، وما تلاه من قرون حتى القرن الرابع الهجري، الذي وصف بالعصر الذهبي، تلك العصور من الممكن وصفها بعصور التجديد العقلي الإسلامي، لأنها هي التي أنتجت كل العقل التراثي بكافة مدارسه العقلية والنقلية والكلامية والفلسفية، قبل أن تنشأ عصور التقليد والشروح والحواشي والمنظومات والمختصرات طوال عشرة قرون تقريباً، ولذا لم يكن غريباً أن تبدأ اللبنات الأولى للتجديد الإسلامي الحديث عند المفكرين والمجددين المسلمين بالدعوة إلى إعمال الفكر والعقلانية، كما في دعوة جمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومحمد إقبال وغيرهم، فقد عملوا على بعث التجديد الديني على أسس من الفكر العقلاني في فهم الإسلام، وفي عملية إحياء التراث الإسلامي العقلاني أيضاً، فانتقوا من التراث الإسلامي كل جهد عقلاني وكتابة فكرية فلسفية.


هذا التصور للنهضة والتجديد الإسلامي الحديث عمل في القرن الماضي ولا يزال يكرر نفسه في مطلع القرن الحادي والعشرين، ولكنه في نظر البعض عقبة أمام النهضة الفلسفية والتجديد الديني معاً، لأن شروط النهضة الفلسفية والتجديد الديني والتراثي متناقضة، فالعقلانية لا تقبل التوارث، لأن شرطها الأساسي النقد الجاد لكل موروث، فإذا كانت العقلانية الدينية الحديثة موروثة بكافة أطيافها الدينية المذهبية والفلسفية أيضاً، فهي فاقدة للعقلانية الحقيقية، وما وصفها بالعقلانية وهي لم تتعرض للنقد إلا وصفاً فارغاً من المضمون، أو هي تعبير عن موقف كان عقلانياً في يوم من الأيام، ولكنه لا يقوى أن يبقى في الحاضر والمستقبل وإلى الأبد.