الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

الحضارة.. والعقل

كان مفهوم الحضارة إنسانيّاً وعامّاً وشاملاً لكل منتج بشري عبر التاريخ القديم والحديث، وكأنه كنز ورثته البشرية من تراكم معارف شعوبها المختلفة وعلومها وثقافات مجتمعاتها وتقاليدها ومعتقداتها ومقتنياتها، بل تشمل كل ما توصلت إليه البشرية من صناعات ومخترعات وإبداعات مدنية وعسكرية وحربية، وكانت الشعوب والدول عندما تأخذ أو تقلد بعضها بعضاً في المقتنيات المنزلية وفي عالم الصناعات والمعدات الزراعية أو الطبية أو الحربية لا تعتبر ذلك سرقة لحقوق فكرية أو تجاوز لحقوق دولية، وإنما هي منافع ومصالح لكل من يحتاجها.

ولكن وبعد دخول الدول الكبرى في حروب عالمية في القرن العشرين، أخذت الدول تحرص على حماية صناعاتها التكنولوجية من سرقة أسرارها التصنيعية، بهدف حماية حقوق مخترعاتها الخاصة، وبالأخص في الجوانب العسكرية، ولتبرير هذا السلوك العدواني بين الدول بعد انهيار النظام العالمي عام 1990، اصطنع فلاسفة الغرب مفهوم صراع الحضارات من خلال مؤلف لصموئيل هانتغتون، وهو يحمل فكرة خاطئة إنسانياً، بأن العالم ليس أمامه إلا صراع الحضارات التي جعلها حضارات صغيرة غير مؤثرة على الصراع، وأخرى حضارات كبيرة ينبغي أن يتم العمل على أن تصبح الحضارة الرأسمالية المنتصرة خاضعة لها، بوصفها الحضارة التي انتهى إليها الفكر والعقل البشري، وبحكم أنها قدمت للبشرية أفضل ما توصل إليه العقل من قيم إنسانية ومبادئ الفردية والحرية والليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية وغيرها، وبأن الحضارات الكبرى الأخرى لا تمتلك هذه القيم، بحسب زعمه، وخصَّ منها بالذكر الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية الصينية.

ومن أخطار تلك الفلسفية الصدامية أنها ليست عقلية وغير إنسانية، بدليل أنها أدت إلى حروب كبرى، ظن البعض أنها ستقضي على الحضارة الإسلامية، فكانت حروب أمريكا في الصومال وأفغانستان والعراق، وأدت إلى أزمة اقتصادية عالمية عام 2008، ولا يزال التحضير لحرب عالمية مع الصين سارياً.


ولمَّا دخلت البشرية في مرحلة العلوم الإلكترونية الكومبيوترية وعلوم التصاميم البرمجية، زاد التنافس على حماية الحقوق العلمية والفكرية، واعتبرت هذه العلوم البرمجية من أسرار الدول والشركات وتميزها وقوتها، واضطرت الدول إلى حماية أسرارها العلمية من الجواسيس المختصين بسرقة المعلومات والمخططات الإلكترونية، ووضع العقوبات على المعتدين عليها سواء كانوا دولاً أو شركات أو أفرداً.


وهكذا أصبح العقل سبباً لنشوء الصراع بين الدول وأبناء الحضارة الواحدة أيضاً، لأن سبب الصراع لم يعد حضاريّاً ولا ثقافيّاً ولا دينيّاً ولا فلسفيّاً ولا عرقياً ولا قوميّاً فقط، وإنما بسبب الصراع الإلكتروني ودخول الدول الكبرى في الحروب السيبرانية والجيوش الإلكترونية والعنكبوتية.